vendredi 18 mars 2011

دراسة أقصوصة الجبار لنجيب محفوظ



30-3-2009


1 – عنوان الأقصوصة
عنوان أقصوصة نجيب محفوظ "الجبار" يدل على التسلط بالنسبة إلى حامل الصفة، وعلى الإكراه بالنسبة إلى من يقع عليه فعلُ التسلط.
ولا يكتفي محفوظ بهذه الصفة يطلقها على أبرز شخصيات أقصوصته بل يشفعها بصفات أخرى، هي السيادة والسلطة والقانون والحياة والموت.
ونستنتج من هذه الصفات أنه الحاكم، وهو الذي يسنّ الشرائع أي يحدّد النظم والقواعد التي تسيِّر علاقات المجتمع، كما أنه صاحب القرار في مدّ حياة هذا وإزهاق حياة ذاك من الناس، ولا رادع له ولا حسيب، فهو "لا يسأل عما يفعل"، وموقف الناس كافة منه هو التسليم والمطاوعة فـ"الجميع يصدقونه دون مناقشة".
وتبقى صفة ينيطها به نجيب محفوظ وهي اسمه، إنه عبد الجليل، فهو سيّد الناس وعبد الله ذي الجلالة أي العظمة المترفعة عن الصغائر والمنزّهة عن العيوب، وهذا الاسم يضفي على صاحبه الخضوع والتذلل لله، ولكنه يخلع عليه مهابة دينية تضاف إلى سيادته الدنيوية.
2 – بداية الأقصوصة من نهايتها
ويبدأ نجيب محفوظ أقصوصته من زيارتها، فبداية الأقصوصة هي نهاية الأقصوصة عينها، ما يحمل على التساؤل عن السبب الذي حدا نجيب محفوظ على اعتماد هذه التقنية، والبحث عن تداعياتها على تكوين الأقصوصة والقارئ.
وتصدير الأقصوصة بخاتمتها يتضمن إعلامًا مسبقًا بالمكان "القرية" والزمان "الليل" والفلاحون المرهقون "القوم"، وحالة أبو الخير جسدًا "قدمان متورمتان" وروحًا "الخوف والألم"، وموقف الجماعة منه، والالماع إلى أن الرجل يواجه مصيره المحتوم "ماضيًا نحو مصيره" و"لم يبقَ منه إلا ما يبقى في الخاطر من حلم"، و"ضاع الرجل.. انتهى ابو الخير...".
ولا يقتصر تقديم نهاية الأقصوصة بجعلها بداية على الاعلام الاستباقي بل هو ينعكس أيضًا على طبيعة الأقصوصة، فالانطلاق من معلوم بل من نتائج يجعل الأقصوصة كلها تفسيرًا لهذا المعلوم وبسطًا لمسببات النتيجة، فالقارئ يعرف ما سيحصل ولكنه يجهل أسباب حصوله فتكون الأقصوصة عرضًا للأحداث والظروف والفعل ورادته أي شرحًا وتعريفًا. الانطلاق من نهاية الأقصوصة يعني الانطلاق من معلوم، وسرد الأقصوصة يعني تفسير المعلوم.
أما الانطلاق من بداية الأقصوصة والتدرج شيئًا فشيئًا إلى نهايتها فيعني الانطلاق من مجهول والكشف عن الأحداث والتحولات، وبذلك تصبح الأقصوصة بالنسبة إلى القارئ عملية اكتشاف، فالمعلوم يجعل الأقصوصة تفسيرًا، والمجهول يجعلها اكتشافًا.

3 – الترسيمة الخماسية
وننظر في بنية أقصوصة الجبار سندًا إلى الترسيمة الخماسية، وقوامها محطات خمس هي: الحالة البدئية، والعنصر المحرك، وردود الفعل، والحل، والحالة النهائية، وأخيرًا العبرة الناجمة عن مجمل الأقصوصة.
والحالة البدئية تتمثل في نوم أبو الخير في مخزن سيده: "وقعت مأساة أبو الخير في ما يشبه المصادفة، غلبه النعاس في مخزن الغلال بدوار سيده الجبار".
والعنصر المحرّك هو اعتداء الجبار على زنوبة اغتصابًا فقتلًا: "واستيقظ على حركة" وانتبه إلى الحركة التي أيقظته... هذا الصوت يعرفه. صوت زنوبة بنت عليوة، مذعورة كأن وحشًا يأكلها... هذا الصوت يعرفه أيضًا. صوت سيده... لعله الجبار مستوليًا على البنت كالفرخ بين مخالب الحدأة... وسمع وقع لطمة شديدة تُبعت بأنين... وسقوط جسم... وانهالت مطرقة القدم الغليظة على المتأوهة... وتواصل الأنين في الهبوط حتى اختفى...".
وردود الفعل على العنصر المحرك، بل على الحدثين المحركين: الاغتصاب والقتل، متعددة، وأوّلها خوف أبو الخير بسبب وجوده غير المبرّر في المخزن، وثانيها ردّ الجبار عن الاعتداء على زنوبة، وثالثها الفرار وما سيعقبه من أحداث وتقلبات. أما موقف الجبار فهو إلصاق جريميته بأبو الخير ومطاردته.
والحل يتمثل بالقبض على أبو الخير وإكراهه على العودة إلى القرية والاعتراف بأنه المجرم.
أما الحالة النهائية فيتركها نجيب محفوظ متأرجحة بين السجن والشنق وسلامة زوجة أبو الخير وابنته من الثأر بسبب اغتصاب زنوبة وقتلها.
وتبقى العبرة الإجمالية، وهي خمنية لم يسفر عنها نجيب محفوظ بل ترك أمرها لاجتهاد الباحث وفطنة القارئ كما نراه.
والأحداث بعد انعقاد أقصوصة "الجبار" لا تنقاد وفق خطتي التجاور والتعاقب غير المحكم، بل إن نجيب محفوظ يلجأ في حبكها إلى مبدأي السبب والنتيجة وتقنية التراوح القائمة على إيراد احتمالين ثم تخطي أحدهما بتغليب الآخر.
4 – منطق تسلسل الأحداث
ولنعرض لتسلسل الأحداث انطلاقًا من مبدأي السبب والنتيجة وتقنية التراوح. فقد وضع نجيب محفوظ بطله أبو الخير، في الحلقة الأولى من سلسلة الأحداث بين احتمالين: التمكن من مساعدة زنوبة، والفشل في ذلك، فغلب الفشل على النجاح ما أوصل الأقصوصة إلى حلقة ثانية تلي الفشل وهي اللجوء إلى القانون أو الفرار، فغلب الفرار، وبذلك انتقل إلى حلقة ثالثة في الحبك وهي التمكّن من النجاة أو إلقاء القبض على أبو الخير، وبعد القبض عليه انتهى إلى الحلقة الرابعة وهي الرجوع والاعتراف بالجريمتين كرهًا، أو الرجوع وعدم الاعتراف، وغلب الرجوع مع الاحتراف. أما الحلقة الخامسة والأخيرة فتركها من دون حسم: الاعتراف والسجن أو الاعتراف والشنق، وبذلك ظلت الأقصوصة مفتوحة غير مغلقة المنفذ النهائي، وهذه السلسلة يمكن إيجازها في الترسيمة التالية:

تسلسل الأحداث: الأسباب والنتائج/ التراوح
1 - اغتصاب زنوبة وقتلها: محاولة المساعدة
فشل المساعدة
2 – الـفـشـل: اللجوء إلى القانون
الفرار
3 – الــفــرار: النجاة
القبض على ابو الخير
4 – القـبض عـلـيـه: الرجوع والاعتراف
الرجوع وعدم الاعترام
5 – الرجوع والاعتراف: السجن
الشنق

وترجيح السجن على الشنق أو العكس يقتضي دراسة الأحداث والشخصيات وخصوصًا شخصية الجبار.

5 – ترسيمة العامل
ونصل إلى ترسيمة العامل، وهذه الترسيمة ليست وقفًا على شخصية بمفردها بمعنى أنه لا يتوجب على الباحث وضع ترسيمة لكل شخصية على حدة، إن ترسيمة العامل منوطة بالعمل المحوري الذي تتحلق حوله جميع الشخصيات، والترسيمة لا تنظر إلى كل شخصية مستقلة عن الشخصيات الأخرى بل تنظر إليها على أنها شبكة متضامنة مترابطة بعضها ببعض، فكأنها الخيوط المتعددة في النسيج الواحد. يضاف إلى ذلك أن العمل الواحد يقتضي ترسيمة واحدة، أما إذا تطور هذا العمل الواحد ونجم عنه عمل ثان اقتضى ذلك وضع ترسيمة ثانية توضح العمل الثاني الذي هو امتداد للعمل الأول. إن الشخصيات مرتبطة بالعمل وهي مترابطة بعضها ببعض. والعمل عرضة للتطور.
وانطلاقًا من هذه المبادئ نجد أن محور العمل الأول هو الاعتداء على زنوبة ومحاولة رد العدوان عنها، هذا هو العمل. فالعامل الأول، الفاعل الأول هو أبو الخير أما غايته فتخليص زنوبة، وحافزه على ذلك شهامته ودينه وأخلاقه، والمستفيد من التخليص هو زنوبة المتمثل في منع اغتصابها فقتلها، والمؤيد لهذا الهدف محور العمل الأول، للموضوع الأساس المهدوف إليه هو أبو الخير، والمعارض لهذا الهدف هو المعتدي هو الجبار، ويمكننا أن نمثل محور العمل الأول في الترسيمة التالية:
الحافز على العمل
شهامة أبو الخير
المستفيد من التخليص: زنوبة
الموضوع
تخليص زنوبة
العامل
أبو الخير
المعارض لهذا العمل: أي للتخليص الجبار
الحافز على العمل:
شهامة أبو الخير
المؤيد لهذا العمل:
أبو الخير
المؤيد لهذا العمل= أبو الخير







ولكن أبو الخير يعجز عن تحقيق هدفه الأول، العمل المرجو، الفرض المؤمل في هذه المرحلة من الأقصوصة، فتليها مرحلة ثانية من العمل، يصبح فيها غرض أبو الخير تخليص نفسه من سطوة الجبار، وهذا العمل الثاني امتداد للعمل الأول، فبعد فشله في رد العدوان عن زنوبة أصبح هو نفسه عرضة للعدوان فصار هدفه خلاصه وحافزه على ذلك المحافظة على حياته، ويؤيده في مسعاه صديقه حارس حقل البطيخ، ويعارضه في إدراك هدفه الجبار ورجاله، ويمكننا أن نمثل محور العمل الثاني في الترسيمة التالية:
الحافز
محافظة أبو الخير على حياته
المستفيد
أبو الخير
الموضوع أو الهدف
النجاة والخلاص
العامل
أبو الخير
المعارض
الجبار ورجاله
الحافز على العمل:
شهامة أبو الخير
المعارض
الجبار ورجاله
المؤيد:
أبو الخير وصديقه






6 – الهوية والممثل
ودراسة العامل يجب ان تشفع بدراسة الممثل، فمفهوم العامل نمطي تجريدي عام، ومثال ذلك أن العامل الفاعل في أقصوصة الجبار هو فلاح فقير، وقد يكون العامل الفاعل في أقصوصة أخرى طبيبًا أو محاميًا أو جنديًّا رجلا أو امرأة، فترسيمة العامل بنيانية شمولية هي تبرز تركيب الأقصوصة أو النظام العام الذي يضبط عملها وعمّالها وعلاقاتهم بعضهم ببعض وبالعمل. أما الممثل فهو التحقيق الفردي النسبي مقابل العامل الذي هو النموذج العام المطلق. وإذا نظرنا في شخصية أبو الخير كممثل وقعنا فيها على عدّة صفات، وأوّلها الإيمان أنه رجل مؤمن، فعندما حاول ثني الجبار عن الاعتداء على زنوبة خاطبه قائلًا "اتق الله"، ومعنى ذلك خف ربك وتجنّب عقابه لك على فعلتك فإنه يستجير بالله على الجبار، وعندما سأله صديقه حارس حقل البطيخ "لِمَ نمت في المخزن؟" أجابه "أمر ربنا." فحتى نومه وقع بإرادة إلهية، وعندما حاصره رجال الجبار ليلقوا القبض عليه "... هتف من الأعماق: - أنا في عرض النبي!ِ" أي أنه في حماية الرسول وحين لطمه الـ... أحدهم لطمة أردته وصاح به: تهرب يا ابن التيس!... هتف مرّة أخرى: - أنا في عرض النبي! وفي الحالتين يبدو ملاذه دينيًّا. وموقفه العام من الشر في الدنيا وكيفية التطهر منه ديني العمق والبُعد، قال معلقًا على تصرف الجبار إزاء زنوبة متمنيًّا "... لو يستجيب الله مرّة أخرى إلى دعاء نوح..." ودعاء نوح يتمثّل بالطوفان المطهِّر.
وإلى الجانب الديني يظهر أبو الخير زوجًا محبًّا وأبًا رؤوفًا، فقد آلمه الخزي الذي حقّ "... على امرأته وابنته..." والحزن الذي أخرسهما، كما أنه في أثناء فراره للحفاظ على حياته كان يلهج دائمًا بقوله: "... من لامرأته وابنته؟ من لهما في جو ينضح بالمقت والرغبة في الانتقام؟... ولكن من للمرأة والبنت؟ ... يمكن أن يبلغ بعد العذاب مصر ولكن من يحمي المرأة والبنت؟ وكيف تطيب الحياة لمن يعيش مطاردًا إلى الأبد محروق القلب على امرأته وابنته؟" ومن الأسباب التي حملته على الرجوع إلى القرية والاعتراف كرهًا بأنه اغتصب زنوبة وقتلها قول أحد رجال الجبار له: "- ويعيش أهلك في أمان".
ويُضاف إلى ذلك صفتان هما انعدام الخبرة والفقر، فأبو الخير رجل لم يكن يعرف من الدنيا سوى حدود سوق قريته: "لم يكن جاوز طيلة حياته السوق بحال ولا يعرف عن الدنيا شيئًا"، كما أنه كان معدمًا: "ليس معي مليم".
وعلى طرف نقيض من فئة المظلومين فئة الظالمين، وفي طليعتهم الجبار، وقد رأينا بعض صفاته استنادًا إلى اسمه ولقبه وما نسبه الكاتب إليه، إلا أننا نستطيع أن نتبيّن الكثير من عيوبه بإبراز تصرفاته، فهو أولًا رجل غرائزي، يحمله هيجان الغريزة على الاغتصاب، فلا يشعر بألم زنوبة المغتصبة وتوسلاتها: "واستمرت الضراعة الباكية تلطمها الزجرة المحمومة..."، وعندما حاولت زنوبة مقاومته تحول الاغتصاب إلى قتل دوسًا بالقدم، وصارت زنوبة التي حاولت رد الإجرام عنها مجرمة: "- يا مجرمة... وسمع وقع لطمة شديدة تبعت بأنين مستسلم يائس وسقوط جسم... وقال الجبار بحنق ملتهب: - يا مجرمة خذي... وانهالت مطرقة القدم الغليظة على المتأوهة... أما الغضب فاشتعل جنونه إلى ما لا نهاية، خذي... خذي... خذي...".
وبالإضافة إلى الغريزة الهوجاء والعدوان المستمر ثمة جانب أخلاقي يدل على وهن في الضمير وعوج في السلوك، واستهانة بالقيم الإنسانية وموازين العدل، فالجبار، وهو المغتصب القاتل، يتهم رجلًا بريئًا بفعلتيه، ويرغمه على الاعتراف بجريمتيه ومواجهة الشنق أو دخول السجن لتسلم زوجته وابنته من الثأر، والأرجح أن هذا الوعد غير صادق بل ستتبعه جريمة ثالثة وهي إعدام أبو الخير. كما سنراه.
ورجال الجبار صورة عن سيدهم، فهم فئة من القتلة: "يقتلونك ولو في المحكمة..."، ولا يعاملون الآخر إلا بالعنف: "فلطمه أحدهم لطمة أردته على الأرض..."، "فغرس الرجل قدمه في بطنه..."، "فركله بقسوة"، و"ركله ركلة أشد من الأولى"، كما أنهم ينزلون الإنسان منزلة الحيوان: "... وصاح به: - تهرب يا ابن التيس!...".

7 – التقاطبات المكانية
ونصل إلى دراسة المكان معولين في ذلك على تقنية التقاطبات وقوامها رصد الأمكنة التي تقع فيها الأحداث وتتردد إليها الشخصيات انطلاقًا من مبدإ التضاد.
ونعرض أولًا للأمكنة المغلقة التي يقع فيها حدثان مهمان، والمكان الأول هو مخزن الغلال، وهو موطن الاغفاء، والجريمة، ومشاهدة الجريمة، والتعرض للخطر.
والمكان الثاني المغلق هو كوخ صديق أبو الخير حارس حقل البطيخ، وهو مكان الأمان العابر والود الصافي، والمخبأ واتقاء العدوان.
ومقابل هذين المكانين المغلقين مكان منفتح مكشوف، هو أرض المزارع، أرض أشجار الصفصاف والنخيل، والزرع المنتشر تتخلله المماشي، وترعة ابتسم ماؤها..."، وهذه الأرض هي مساحة الفرار والسعي إلى الخلاص.
وتجدر الإشارة إلى أن نجيب محفوظ لا يجمد حركة الأقصوصة ليصف الأمكنة، فالأمكنة مقرونة بالحدث، بل هي حلقة من حلقات تطور الأقصوصة، فالمخزن مكان الجريمة والخطر، والكوخ مكان الاختباء والأمان، والمزارع مساحة الفرار والنجاة.
ويضاف إلى ذلك تقاطب آخر بين الأرض والسماء، فالأحداث كلها تقع في بيئة قروية، ولكن هذه البيئة تنضح بالعداء، وعلى علو منها سماء تكشف ما يقع على الأرض، فكأن الأرض والسماء يتآمران على البريء الهارب من ظلمة القرية وضياء السماء: "... والتفت لخاطر برق في رأسه المكدود نحو الأفق إلى يساره فرأى القمر صاعدًا فوق الأرض بأذرع متجليًّا بأكبر ما يرى وأسهم الضياء تنطلق منه وانية. ضايقه على غير عادة القمر...".
ومعروف أن الظلمة والضياء تقترنان بالتقاطبات المكانية، فثمة في الأقصوصة تقاطب متضاد بين الأرض - أو القرية المظلمة – مدعاة التستر، والسماء المنيرة الحاملة على الافتضاح.
تقاطب آخر نجده بين القرية والمدينة، فأبو الخير هارب من القرية طار إلى المدينة، ومصر في الأقصوصة لا تعني مصر بل تعني مدينة القاهرة، فأبو الخير إذ يتساءل: "أين منه مصر الكبيرة ليذوب في زحمتها ويجد مخبأ ولقمة؟ كم يلزم في الوقت للقدم المتورِّمة لتقطع ما يقطعه القطار السريع في أربع ساعات؟"، إنما يسأل عن الشأن الذي عليه أن يبلغه في المدينة ليجد الخلاص من شر القرية، ويتابع "يمكن أن يبلغ بعد العذاب مصر..."، ولكن أمله هذا لم يتحقق إذ يلقي رجال الجبار القبض عليه وهو في الطبيعة: "مال نحو شجرة جميز فلبد عند أصلها كأنه نتوء في سمائها... فتح عينيه فرأى الأقدام الغليظة تضرب من حوله حلقة محكمة". لقد حاول الفرار من أسر المكان القروي الزراعي ليفك قيده في المكان المديني المحرِّر ولكنه فشل.
ميخائيل نعيمه في أميركا

ألقيت في جامعة AUST في بيروت
14 – 05- 2009
حياة الإنسان استمرار لا انقطاع فيه، فماضيه كامن في نفسه، وحاضره إيذان بغده، وغده تحقيق لما يراوده من أشواق وآمال. عمر الإنسان يومان، يوم يكون به، ويوم يصير إليه، وبينهما دوام وصيرورة في وحدة ذات. وما المراحل التي يحددها بين زمن وزمن سوى محطات في رحلة واحدة.
في عام 1911 عندما قرّر ميخائيل نعيمه الذهاب إلى أميركا، حمل معه بسكنتا والناصرة وپولتاڤا، بل كانت نفسه ملأى بلبنان وفلسطين وروسيا، لم ينطلق من فراغ، لم يطو كتابًا ليفتح آخر، بل أضاف صفحات جددًا إلى كتاب حياته.
وحقيقة الأمر هي أن ميخائيل نعيمه لم ينو السفر إلى أميركا في البدء، بل كان قد عقد العزم على الذهاب إلى فرنسا ليلتحق بجامعة السوربون في باريس بغية دراسة القانون، فأكب على دراسة اللغة الفرنسية التي كان قد ألمّ ببعض مبادئها في أثناء دراسته الابتدائية، وأخذ يُعد العدّة لمواجهة نفقات السفر، وشؤون الإقامة في باريس والالتحاق بجامعتها الكبرى. إلاّ أن وجود أخويه أديب وهكيل مهاجرَيْن مقيمَيْن في أميركا جعله يعدل عن الذهاب إلى فرنسا فيولي وجهه شطر الولايات المتحدة الأميركية. إذًا، لم يكن سفر ميخائيل نعيمة إلى أميركا قصدًا أول، كما أن الهجرة بغية الارتزاق والكسب المادي لم تكن حافزه، كان غرضه الوحيد من سفره طلب العلم.
وأولى الصعوبات التي واجهها نعيمه في القارة الجديدة مردّها إلى جهله المطبق للغة الإنكليزية. كان يتقن العربية والروسية وملمًّا بالفرنسية، إلا أنه لم يكن يعرف من الإنكليزية شيئًا ولو يسيرًا، فعكف طوال ثمانية أشهر على دراسة الإنكليزية ولم يربأ بنفسه عن الالتحاق بمدرسة ابتدائية يصغي إلى صغار التلاميذ الأميركيين كيف ينطقون، ويخضع للامتحانات التي لها يخضعون، علمًا بأنه كان يحمل من روسيا شهادة تفوق شهادة الفلسفة بقليل، أما رأيه فكان التالي: كنت بالعربية إنسانًا، وبالروسية إنسانًا، وبالفرنسية بعض إنسان، وها أنا بالإنكليزية إنسان رابع.
وبداية نعيمه بدراسة الإنكليزية، فيها الكثير من الأمور المضحكة والمؤلمة، ولكنها في الحالتين تنبئ بقدرة على مواجهة الصعاب وإرادة على تخطيها وتصميم على بلوغ الهدف. شخصية نعيمه الطالب توضح أنه كان منذ ذلك الحين يدرك أن الحياة موقف وهدف وطريق إلى الهدف.
والتحق ميخائيل نعيمه بجامعة واشنطن في مدينة سياتل، واختار أن يُعد إجازتين معًا، واحدة في القانون وثانية في الأدب، وكانت دراسته كلها بالانكليزية، ولم يكتفِ بمقررات الجامعة بل راح ينهل بنهم روائع الأدب الإنكليزي مثلما اكتنز من قبل روائع الأدب الروسي حين كان طالبًا في روسيا.
ويمكن القول إن نعيمه، قبل ذهابه إلى أميركا أواخر العام 1911 كان قد تزوّد بزاد روحي وفكري وأدبي واجتماعي جعله متوحدًا فكرًا وروحًا، ناقمًا على المدنية المادية والآلية في المجتمعات الغربية الحديثة، طارحًا من الأسئلة ما لا يطرحه إلا كل ذي حسّ رهيف، وفكر يقظ وروح تواق إلى التسامي، وضمير يطلب العدل. كان يسأل: "عن الحياة ومعناها، والموت وما بعده، وعن الكون العجيب... والغاية من وجوده... ومن أين الفكر؟ ولماذا؟...".
كان يسأل عن تفاوت الناس "... من حيث مقدرتهم على التفكير... ]فـ[ أولئك أفكارهم في بطونهم وظهورهم وجيوبهم، وهؤلاء جيوبهم وظهورهم في أفكارهم"[1].
ولماذا تفاوتهم من حيث يقظة الضمير، وشعورهم بالحلال والحرام، وطول أعمارهم وقصرها؟ وما القدرة التي تفصِّل الأعمار؟
كان يسأل: ما نظام الكون؟ ومن أين الكائنات؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ وما حقيقة الله؟ ولماذا تصدر الكائنات عنه لتعود إليه؟ وما الحكمة من ذلك؟ وهذه الأسئلة لقيت الإجابات عنها يوم كان طالبًا في بدء سنته الثالثة في جامعة واشنطن في مدينة سياتل.
حدث ذلك بفضل صديق اسكتلندي ينتمي إلى الجمعية التيوسوفية، وهي جمعية تؤمن بالتقمّص، أي بوحدة الحياة وتعدّد الأعمار، وتأخذ بالثواب والعقاب، أي بأن الإنسان يحصد مثلما يزرع، وإن التفاوت بين الناس مرده إلى أعمارهم السابقة، فهم لا يولدون صفحات بيضًا لم يخط عليها شيء، كما أن ما يلقونه في حياتهم من صحة ومرض، وألم وسعادة هو رَجْع لما أطلقوه في الحياة من صوت، وأعمارهم تتعدّد وتتوالى فسحات من أجل تكامل المعرفة وتبيّن إرادة النظام الذي لا يفلت من ضبطه أي فكرة، أي عمل، وأي قول، وذلك بغية إدراك الكمال المؤدي إلى التحرّر والخلاص.
وعلى ضوء هذه المبادى أخذ ميخائيل نعيمه يفسّر أحداث حياته، ويستبطن ظواهر الكون والكائنات من حوله، وخير ما يشرح حاله في تلك المرحلة قوله مستنتجًا: "خلاصة القول... إن عقيدة تكرر الاختبار بتكرار الاعمار بغية المعرفة الكاملة والحرية المثلى باتت الركيزة الكبرى التي تقوم عليها فلسفة حياتي... فالحياة أكثر من مهزلة تبتدئ في المهد وتنتهي في اللحد لتعود فتتجدد إما في غبطة أبدية، أو في عذاب أبدي، أو لتمّحي بالموت وكأنها لم تكن، والإنسان أكثر من ألعوبة في يد القدر حتى وفي يد الله..."[2].
وعكف نعيمه على دراسة التعاليم "الباطنية" منذ أقدم العصور، والديانات السماوية وغير السماوية، والكتابة فيها، وهذا الرافد الفكري الجديد الذي اكتشفه نعيمه في أميركا هندي الأصول، وقد أضيف إلى الرافد الروسي الذي سبق أن تعلّمه نعيمه من كتابات تولستوي، وهو قائم على كراهية الحرب وويلاتها، والنزوع إلى السلم والمحبة، وعدم مقاومة الشر بالشر، والزهد في أمجاد الدنيا والاقتداء بالمسيح، وتحرير الإنسان من العبودية، وتطبيق المبادئ الخلقية في الحياة تطبيقًا عمليًّا.
وإلى جانب تعلّم الإنكليزية، والتحصيل الجامعي، والتثقف بروائع الأدب الإنكليزي، وتكوين العقيدة القائمة على تعاليم تولستوي والفكر الهندي التقمّصي، ثمة الكفاح المادي من أجل إعالة الذات، وتخفيف الأعباء عن شقيقيه المغتربَيْن ومساعدة الأهل في لبنان، ولذا التحق نعيمة موظفًا بالقنصلية الروسية في سياتل بصفة سكرتير معاون مسؤول عن المراسلات باللغة الإنكليزية، وهذا ما أتاح له أن يعمل في جو روسي صرف ويؤمّن لنفسه ولعائلته في لبنان دخلا ماليًّا ينهض بمستواه ومستواها المعيشي[3].
وبعد تخرّجه من الجامعة عام 1916 توظّف ميخائيل في شركة كانت تصنع القنابل للمدفعية الروسية، وعلى الرغم من نفوره من هكذا شركة أمّن لنفسه دخلًا وقاه الحاجة والبحث عن عمل أو عرض نفسه على الناس كما اضطر إلى أن يفعل لاحقًا.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى جُند ميخائيل نعيمه في الجيش الأميركي، وذهب إلى أوروپا ليحارب على الجبهة الفرنسية الألمانية، وكان على كراهيته الحرب يُخفف من وطأتها عليه بأنه يشارك فيها ليحارب تركيا عدوة وطنه الأول لبنان، ووطنه الثاني روسيا.
وبالعودة إلى مذكراته في أثناء خدمته في الجندية نتبيّن أن نزعة نعيمه إلى اليسار المتطرّف كانت قد تأصلت في نفسه مع أنه جهد كل الجهد ليكتمها عن رفاقه الجنود، فلا يدري بها أحد. وبذلك لم تبدل إقامة ميخائيل نعيمه في أميركا من موقفه الطبقي. فقد كان يميل إلى اليسار يوم كان في روسيا، وظل كذلك بعد إقامته في أميركا ثمانية أعوام وانضوائه في جيشها.
وكان نعيمه يكره الحرب قبل خوض غمارها، وازداد كرهًا لها بعدما خبرها، فهي تقتل الروح قبل قتلها الجسد، وتلهي الإنسان عن عدو في داخله بمحاربة من ليس عدوًّا في الخارج، وتبث الأحقاد بين الشعوب، وتدمّر في لحظة ما أنفق الإنسان اعمارًا في تعميره، ويكفي أن نذكر ما جاء في قصيدته "أخي" لندرك عمق تعلّقه بالمسالمة وشدّة نفوره من الحرب، قال:
"أخي، ان ضجّ بد الحرب غربي بأعمالهْ
وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا
بل اركع صامتًا مثلي بقلب خاشع دام
لنبكي حظ موتانا"[4].
بعد إعلان الهدنة التحق نعيمه بجامعة "رين" الفرنسية، وفي آذار من العام 1919 قفل راجعًا إلى أميركا.
وشهد العام 1920 أهم حدث في تاريخ الأدب المهجري بل في تاريخ الأدب العربي المعاصر، وهو تأسيس الرابطة القلمية في مدينة نيويورك، وكان لنعيمه كأمين سرّها دور إداري في تنظيم شؤونها وبسط علاقاتها، وقد أبدى حنكة في الإدارة حتى قال فيه عبد المسيح حداد، أحد أعضاء الرابطة المؤسسين: "لو لم يكن أديبًا لكان قائدًا عسكريًّا". أما دوره كناقد فقد سبق تأسيس الرابطة القلمية إذ بدأ منذ العام 1913 حين نشر مقالته النقدية "فجر الأمل بعد ليل اليأس" متناولًا فيها بالنقد رواية جبران "الأجنحة المتكسرة".
وبالنظر في نتاج نعيمه الأدبي في أميركا، نراه ينتسب إلى الأدب الواقعي النقدي في المسرح (الآباء والبنون) وفي الأقصوصة (كان ما كان) وفي المقالة بنوعيها: الموضوعي (الغربال) والذاتي (المراحل). وفي الرواية ينتمي أدبه إلى الخارق (مذكرات الأرقش)، أما شعره العربي والانكليزي فيتسم بالغنائية التأملية، والطابع العام الذي ماز أدبه في المرحلة الأميركية هو: جمالية الشكل، وصدق الشعور، وعمق التفكير حتى في شعره الغزلي. ودوره الأدبي في الرابطة تركز على نقل الشاعرين إيليا أبو ماضي ورشيد أيوب من التقليد إلى التجديد، أما نسيب عريضه وجبران فكانا من المجددين بطبعهما وثقافتهما وإبداعهما.
وأقف عند شعر نعيمه في المرأة، علمًا بأنه أحب في أميركا سيدتين على التوالي أطلق عليهما اسمين مستعارين هما "بيلا" و"نيونيا"، وشعره في "بيلا" يختلف عن الشعر الغزلي الشائع في جمال المرأة وأنوثتها، فالمرأة والرجل هما جناحا البشرية، وأحدهما نصف الآخر، ولوجودهما دلالة كونية بل إلهية:
"أنا السر الذي استترا
بروحك منذ أن خطرا
ببال الكائن الأعلى
خيال العالم الأدنى
فكون من ثرى بشرا"
أو قوله:
"معًا كنا من الأزل
معًا نبقى إلى الأبد!"
وأخلص إلى قوله:
"أسفي عليك فلا الذهابْ
سهل عليك ولا الايابْ
ستظل تخبط في ضبابْ
حتى ينير لك الطريقْ
قلب يكون لقلبك الواهي رفيق"[5].
وعانى نعيمه في أميركا من ضيق ذات اليد وعدم الاستقرار المادي، وقام بأعمال لم تنسجم مع ميوله الإبداعية، وعبّر عن ذلك بطريقة فيها من الألم ما يكاد يبلغ حدّ الفاجعة، قال: "يا- هو! يا ناس! يا بشر! يا أهل الله! ههنا إنسان يريد أن يعيش بشرف – أن يأكل خبزه بعرق جبينه... وهو لا يسكر، ولا يقامر، ولا يسرق، ولا يقتل، ولا ينافق... ولكنكم حرّمتم العيش عليه إلا إذا كان في جيبه فلوس؛ ولكنكم خلقتم الفلس وجعلتموه معيارًا لصفات الناس ومؤهلاتهم... ولأن هذا الإنسان لا يملك الفلوس وتملكونها أنتم فهو يعرض نفسه عليكم..."[6] ، وأطلق على نفسه لقب "كثير الكارات"، فعمل في متجر لبيع قمصان نوم للسيدات وفساتين للصغار، كما عمل في بيع الأطيان، والترويج لدائرة المعارف البريطانية لقاء عمولة، ومديرًا لفرع المطرزات الفيلبينية في أحد المتاجر، ثم قرّر عام 1932 أن يحمل حقائبه وحنينه ويعود إلى لبنان وفي جيبه خمس مئة دولار من ثروة أميركا بعد بقائه فيها عشرين عامًا.
أما موقفه العام من المجتمع الأميركي فقد أجمله في احدى مقابلاته الصحافية إذ سألتُهُ:
"... ما أول شيء لفتك في البلاد الأميركية؟"
- ]فقال[ إنه المدى الواسع الذي يكاد يكون بغير نهاية. مدى للعين والفكر والخيال والصور. سهول وجبال وصحارى. مدن ومزارع وقرى. وغابات وبحيرات وأنهار. إن أميركا وروسيا متشابهتان من حيث امتداد رقعة الأرض.
- ]وسألتُه[ والسكان؟
- ]فأجاب[ - عرفت خلال إقامتي الطويلة في أميركا كل أصناف الأميركيين من رجال أعمال، ورجال دين، ورجال حرب، ورجال أدب وفن، ورجال سياسة وعلم، ومن عمّال وفلاحين، ومن بيض وسود. إنهم، إجمالًا، إلى الخير أميل منهم إلى الشرّ.. إنهم، من حيث النشاط... لا يتقدّمهم أي شعب من شعوب الأرض... إن الأميركيين، على ما فيهم من عناصر إنسانية طيبة، قوم عمليون قلما تشغلهم النظريات المجرّدة عن الكسب والمتعة المادية"[7].وأختم: إن ميخائيل نعيمه، إلى جنسيته اللبنانية كان يحمل الجنسية الأميركية، وظلت الدولة الأميركية ترسل إليه التعويضات عن خدمته في الجيش الأميركي وعمله فيها طوال عشرين عامًا حتى اللحظة الأخيرة من عمره، كما أن جامعة واشنطن منحته الدكتوراه الفخرية تقديرًا منها لنتاجه الأدبي ولكونه أحد طلابها الميامين.
[1] متري بولس، ميخائيل نعيمه وروسيا، بيروت، منشورات AGATE، 2007، الصفحة 64.
متري بولس، ميخائيل نعيمه وروسيا، الصفحة 65. [2]
[3] متري بولس، ميخائيل نعيمه وروسيا ، الصفحة 56.
[4] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، بيروت، مؤسسة نوفل، 1974، الصفحة 14.
[5] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، الصفحات: 102، 107، 95.
[6] ميخائيل نعيمه، سبعون، المجموعة الكاملة، المجلد الأول، بيروت، دار العلم للملايين، 1970، الصفحة 421.
1 متري بولس، ميخائيل نعيمه وروسيا، الصفحتان 183-184.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire