vendredi 18 mars 2011

التوجيهات المسرحية والبراغماتية في مسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم



ألقيت في جامعة الروح القدس – الكسليك
11-11-2008
ما أهمله فردينان دوسوسور اعتمدته البراغماتية، أهمل دو سوسور الكلام وحالات الاتصال بين المتكلم والمخاطب، وهذا ما اعتمدته البراغماتية. اهتمّ دوسوسور بالقوانين العامة التي يقوم عليها الكلام أكثر من اهتمامه بالكلام الخاص كما يجري في الواقع. دوسوسور تجريدي والبراغماتي تجريبي.
واهتمت البراغماتية بعلاقة القول بالفعل، أو بالأقوال – الأفعال، فبعض القول فعل، ومثاله: إذا قال الأعزب "نعم" إجابة عن سؤال الكاهن: هل تقبل فلانة زوجة لك؟ فإنّ "نعمه" ارتباط، وإعلان الكاهن أنّه قد صار زوجًا يبدّل وضعه العائلي واﻻجتماعي والقانوني والديني، فالزواج كنسيًّا من الأسرار المقدّسة، فـ"نعم" الأعزب أو العزباء فعل قبول، وإعلان الكاهن قانون كنسي وفعل وإيمان.
واعتبرت البرغماتية أنّ للكلام معنىً صريحًا ومعنىً مضمرًا، وأكّبت على الإضمار تؤوّل المعنى الظاهري استنادًا إليه، فركّزت على المعنى المستتر الكامن، فالكلام له ظاهر وباطن، والباطن هو محور اﻻهتمام، ويحتاج إلى تأويل لتظهير معناه العميق.
ونقطة ثالثة لحظتها البراغماتية وهي أنّ الضمائر مُفرغة وﺃنّ المتكلمين يملأونها، فالضمائر لا هوية محددة لها، والقائلون وأفعال القول والمقولات وحالات اﻻتصال يمنحونها الهوية، ومثال ذلك الضمير "أنا" فقد يكون رجلًا أو امرأة، طفلًا أو كهلًا، أو اللغة العربية عندما تكلمت "فقالت": "أنا البحر..." كما في قصيدة لحافظ إبراهيم[1].
والضمير "هي" قد يكون صبيّة أو شجرة، زوجة حبيبة أو معلّمة نجّـنا منها يا ربّ، والضمير "هو" قد يكون حسب السياق وحالات اﻻتصال، حبيبًا خفيف الظلّ أو أستاذًا محاضرًا ثقيل الدم.
وأستندُ، في النظر إلى مسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم، إلى هذه التقنيات الثلاث، عنيت الأقوال – الأفعال، والمعنى الصريح والمضمر، والضمائر المفرغة والملآنة.
إنّ التعليمات المسرحية التي يوجهها الحكيم إلى الممثل والمخرج ليست مجرّد أقوال بل هي وفق العــُرف البراغماتي أفعال، إنها تدخّلات مباشرة تحمل الممثل والمخرج على سلوك معيّن وتقنية بعينها، إنها ما يعبّر عنها بالفرنسية بالمصطلح Didascalie المستمدّ من Didaskalia اليونانية.
وثبت الشخصيّات وأسماؤها، وتعيين المكان وحركات الممثلين، وتنغيم أصواتهم وتعبيراتها، تُحدّد ظروف القول وحالاته، ونيّة المؤلف وقصده، وعملية الإخراج المسرحي، وتشارك في إيضاح الخبرية أو القصة في المسرحية.
وأقف عند أبرز التوجيهات التي يخصّ بها الحكيم شخصية شهرزاد، فبالنسبة إلى الصوت يجب أن يكون صوتها ساحرًا هامسًا، وأنوثتها يجب أن تقوم على الإغراء والدلال والكشف عن محاسن الجسم، والحنوّ والحرارة واللمسات المداعبة والقبلة. وعلى طرف نقيض من هذه التوجيهات تعليمات تحثّ على السخرية والمكر والخبث مشفوعة بالغموض والغرابة والتفكير والتأمل.
أمّا العبد فكثير التلفّت والإجفال واﻻختباء والخوف والنظر إلى الأجساد والبصبصة.
والوزير قمر مرتبك مضطرب حيي متألم غاضب حادّ متجهّم ثائر باكٍ.
أمّا شهريار فمتعب غاضب قلق ضيّق الصدر قانط متأوّه مشغول بالتطلّع إلى الفضاء والمكان وعلاقة جسم الإنسان بهما، واﻻنتقال والترحال وفكّ الألغاز وهتك الحجب عن الأسرار.
وهذه التوجيهات يوردها الحكيم ليست مجّانية أو اعتباطية، إنّها تحدّد بدقة وعمق سمات الشخصيات وطبائعها وتصرفاتها وأقوالها.
والتوجيهات إلى المخرج تأتي على عكس ما يتوقعه المشاهد أو القارئ، فمسرحية "شهرزاد" المتعلّقة بألف ليلة وليلة والليالي الملاح والكلام المباح حتّى الصباح، لا نجد فيها شيئًا من هذا القبيل، فثمّة طريق مقفر، ومنزل منفرد، وليل بهيم ومصباح مضيء، وموسيقى خافتة بعيدة، ومساكن عاديّة، والقصر مجرّد قاعة خاصة بالملكة في وسطها حوض مرمر، وغرفة شهرزاد مقعد وستار أسود، وبهو الملك غارق في ليل داجٍ، ثمّ بيداء وفضاء وشمس غاربة ورمال وخمّارة، فلا أبّهة ولا رياش ولا فخامة في مسرحية "شهرزاد" بل ديكور هو أقرب إلى التقشّف، وتناوب النور والظلام والموسيقى والصمت.
بعد التوجيهات انتقل إلى المعلومات الظاهرة والخفيّة.
كلّ معلومة تتضمّن برغماتيًّا معنيين ظاهرًا ومستترًا، وكلّ شخصية من شخصيات مسرحية "شهرزاد" معلومة لها ظاهر وباطن، وأبدأ من أدنى معلومة إلى أعلاها. أول معلومة هي شخصية العبد، إنّه يمثّل ظاهرًا عشيق شهرزاد المحتمل، ذلك هو ظاهره، أمّا باطنه فيمثّل الغريزة في المطلق، فالغريزة سوداء مستترة تختفي وراء ستار أسود لتعمل عملها في السرّ.
وبعد العبد ثمّة شخصية قمر، في الظاهر قمر هو وزير الملك شهريار، وفي الباطن هو العاشق المثالي، هو العاطفة. قمر يمثّل التسامي بالمحبوب إلى الكمال.
وبعد الجسد-العبد والوزير-القلب، يرتفع شهريار، ﺇنــّه الملك ظاهرًا والعقل باطنًا، إنـّـه الطامح الى المعرفة والإنسان الذي تخطّى الجسد بعد استغراق في الغرائز، وتعدّى القلب بعد سعير الغيرة، وبعدما عرف من العذارى أجسادهن وقطع بدافع الخيانة والحقد أعناقهن. ﺇنّه لا يريد أن يشتهي، لا يريد أن يشعر يريد فقط أن يعرف.
وفي قمّة الهرم تعلو شهرزاد. إنّها الملكة، إنّها زوجة شهريار ظاهرًا، إلا أنّها في الباطن سرّ الأسرار، هي الملكة ظاهرًا والمجهول واللغز باطنًا.
ونلحظ أنّ الحكيم اختار ثلاث شخصيات ترمز إلى الغريزة والعاطفة والعقل، وقد اختارها لثلاثة أسباب: الأول ليؤكّد أنّ كلّ إنسان يرى في الواقع ما يُمثّله هو لا ما يمثّل الواقع في ذاته، فالعبد-الغريزة يرى في شهرزاد والمرأة عمومًا جسدًا جميلًا، قال مخاطبًا شهرزاد: "ما أجملك! ما أنت إلا جسد جميل!"[2]. وقمر العاطفة يرى في شهرزاد الكمال والمثال والمشاعر السامية النبيلة، فخاطب شهرزاد قائلًا: "ما أنتِ إلا قلب كبير!"[3]. والملك شهريار-العقل يرى في شهرزاد العقل والحكمة: "ما أنتِ إلا عقل عظيم...!"[4]. وكعارف أو طامح إلى المعرفة يبحث عن سرّها، سرّ الطبيعة والحياة والمجهول الكامن خلف الحجب.
والسبب الثاني ﻻختيار الحكيم الشخصيات الثلاث مردّه إلى اعتقاده أنّ الميل الواحد إذا طغى على الكلّ أدّى إلى الضياع، فالغريزة المستأثرة بالعبد جعلته دائمًا معرّضًا للخطر بل للقتل، وإن هي سيطرت على الإنسان قضت على العاطفة والعقل. والعاطفة إذا تفرّدت بالإنسان جعلته يرى الواقع على غير حقيقته وأجمل مما هو وأكمل، وعرّضته للقلق الدائم بل للانتحار، فمثاليّة قمر عذبته، وعندما سقط ما توهمه كمالًا عمد إلى اﻻنتحار، فالشعور وحده قتّال. والعقل إن تحكّم في الإنسان جفّت نزعات جسده وتحجّر، وأصاب القحط مشاعره، وطرأ على صاحبه الخبال بل الجنون، وتلك هي حال شهريار.
والسبب الثالث ناجم عن السبب الثاني بل هو نتيجة منطقية بل حتمية له. فإذا كان طغيان ميل من الميول يؤدّي إلى الخلل فإنّ التوازن بين الميول يؤدّي إلى اﻻتزان، فجوهر الإنسان قائم على التعادل بين الغريزة والعاطفة والعقل، فالحكيم يقول: أعطِ جسدك قسطَه، وقلبك نصيبه، وعقلك حظّه، وفق تعادلية هي قانون الإنسان والحياة والكون.
وأقف أخيرًا عند الضمائر المتعلّقة بشهرزاد، وأوّلها الضمير "هي". قال العبد إنّه يودّ أن يعرف من هي شهرزاد، فأجابته إحدى العذارى: "هي كل شيء، ولا يُعلم عنها شيء..."[5].
وذكر شهريار شهرزاد مكنّيًا عنها بالضمير "هي"، فقال: "هي... تعلم بكلّ ما في الأرض كأنّها الأرض!... هي البكر تعرف الرجال كامرأة... وتدرك طبائع الإنسان... هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض فصعدت إلى السماء تحدّث عن تدبيرها وغيبها كأنّها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلى كأنّها بنت الجن... أعمرها عشرون عامًا. أم ليس لها عمر؟... أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنّها الطبيعة؟!..."[6].
ونلحظ أنّ الضمير "هي" العائد إلى شهرزاد يتضمن دلالات تتعلــّق بالأرض والمرأة والإنسان بعامة والسماء والملائكة والممالك السفلى والجنّ والعمر والطبيعة.
والضمير " أنتِ " له دلالات العقل: "ما أنتِ إلا عقل عظيم...!"[7]، وفق ما ذكر شهريار. والعاطفة: "... ما أنتِ إلا قلب كبير!"[8]، كما ذكر قمر، والجسد، قال العبد مخاطبًا شهرزاد: "ما أجملك! ما أنتِ إلا جسد جميل!"[9].
وتنتهي مسرحية "شهرزاد" بهزيمة العقل – شهريار، فهو عاجز عن فهم السرّ- شهرزاد: "شهريار: هي أيضًا تفعل هذا، تُبدي لنا من حُسنِها، وتحجب عنّا سرّها.
شهرزاد: من هي؟
شهريار (كالمخاطب نفسه): الطبيعة"[10].
فهل هذا يعني الكفّ عن البحث والمعرفة؟
طبعًا، لا. فالإنسان في هذه المرحلة عاجز عن الفهم، ولكن ثمــّة مراحل تالية: "خيال! شهريار آخر الذي يعود يولد غضًّا نديًّا من جديد..."[11].
وثمّة درس آخر، فقد تكون الحياة غاية بحدّ ذاتها، بإنسانها وزمانها ومكانها وتوقها إلى المعرفة، فلا نجعلنّ الحياة وهي الغاية القصوى وسيلة إلى غايات قد لا تكون موجودة: "... أي سرّ تبحث عنه... إلا تراك تضيع عمرك الباقي وراء حب اطلاع خادع...؟!". "... وهل تحسب هذا هو السبيل إلى ما تطلب؟ بل ما إدراك ان ما تطلب موجود؟..."[12].




[1] - حافظ إبراهيم، ديوان حافظ إبراهيم، بيروت، دار محمد أمين دمج، 1969، الصفحة 254.
[2] - توفيق الحكيم، شهرزاد، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1973، الصفحة 108.
[3] - المصدر نفسه، الصفحة 51.
[4] - المصدر نفسه، الصفحة 71.
[5] - توفيق الحكيم، شهرزاد، الصفحتان 26-27.
[6] - توفيق الحكيم، شهرزاد، الصفحتان 68-69.
[7] - المصدر نفسه، الصفحة 71.
[8] - المصدر نفسه، الصفحة 51.
[9] - المصدر نفسه، الصفحة 109.
[10] - توفيق الحكيم، شهرزاد، الصفحة 74.
[11] - المصدر نفسه، الصفحة 167.
[12] - المصدر نفسه، الصفحتان 63-64.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire