vendredi 18 mars 2011

ندوة حول كتاب الرؤية الكونيّة في أدب ميخائيل نعيمه للدكتور خليل أبو جهجه


ألقيت في الحركة الثقافية، أنطلياس
24-2-2010





بالنسبة إلى كتاب الدكتور خليل أبو جهجه "الرؤية الكونية في أدب ميخائيل نعيمه"[1]، هذا الكتاب يعيدني إلى مرحلة من العمر جميلة وشيّقة، على صعوباتها وآلامها، وهي المرحلة التي كنت أتعاون فيها مع صديقي الدكتور الشاعر أدونيس. وكان أدونيس قد أشرف على الأطروحة الأولى لخليل لنيل دكتوراه حلقة ثالثة سنة 1982 في معهد الآداب الشرقيّة – جامعة القديس يوسف. وكان هو واسطة الخير بيني وبين الدكتور أبو جهجه. وبعد اجتماع لجنة المناقشة، وبعدما ناقشنا الدكتور أبو جهجه في أطروحته قرّرنا آنذاك أدونيس وأنا والعضو الثالث أن نمنحه شهادة الدكتوراه بدرجة جيد جدًا.
ثمّ بعد ذلك، أخذني الدكتور أدونيس جانبًا وكان عازمًا على مغادرة لبنان إلى فرنسا أو ربّما كان قد غادر وعاد إلى لبنان لنقوم بعدد من المناقشات معًا ثمّ لينتقل عائدًا إلى فرنسا، وقال لي: "أوصيك بخليل خيرًا". فقلت له: "وأنا عند الوصاية".
اتّصل بي خليل وكان يحمل شهادة الدكتوراه، واقترح عليّ أن أشرف على أطروحته لإعداد شهادة دكتوراه دولة PHD من الفئة الأولى. حدث ذلك في العام 1982 أي مباشرة بعدما كان قد أنهى أطروحته الأولى. وأعتقد أنه كان يعمل ليل نهار، حتّى أنّه في بعض الأحيان كان يقطع نفسي في آخر كلّ أسبوع، فيأتيني في كدسة من الكتابات التي تتناول موضوع أطروحته.
بدأ إعداد الأطروحة عام 1982، وأعتقد بأنّه كان قد أنهاها في نهاية 1985، إلا أنّني ارتأيت أن يعيد النظر في كثير من الأمور المتعلّقة بها وأن يأخذ في الاعتبار وجهات نظر أعضاء اللجنة الكرام في ذلك الوقت.
د. خليل، رجل صريح ومتواضع وحيويّ، هذا ما ذكره في الصفحة 16 من أطروحته عندما قال: إنّ هذا الكتاب هو في الأساس أطروحة دكتوراه، أشرف عليها العبد الفقير.
ارتأيت في العام 1984 أن نذهب معًا إلى الأستاذ نعيمه وأن يتولّى الدكتور خليل عرض رؤيته كاملة على الأستاذ نعيمه بالنسبة إلى أطروحته، ومواضيع وتفسيرات وهيكلة.
وأذكر فيما أذكره، أمرًا لم يورده الدكتور أبو جهجه في أطروحته ما قاله له الأستاذ نعيمه، أستاذي رحمه الله. قال له: "يا خليل، أنت تعرف نعيمه أحسن من نعيمه".
ولست أدري لماذا أورد خليل صورته أو رسمه مع نعيمه في الصفحة 445 وأنا لم أشأ أن أظهر في الصورة لأنني كنت أعلم أنّ الاحتفال يجب أن يكون بالعريس وليس بأهله.
هذه هي الظروف التي أحاطت بوضع هذا الكتاب، أمّا فكرة هذا الكتاب فأنا عادة لا أطلب من أيّ طالب أو زميل أو صديق، أن يقوم بهذا العمل، قلت له: أقترح عليك نقيض ما قمت به أنا. أنا درست الخوارق عند ميخائيل نعيمه أيّ الناحية التي تتخطّى المعقول أو تتخطّى الحياة الاجتماعيّة المألوفة والاتّجاه بالنسبة إلى الدراسات التي تتناول أدب نعيمه ينحو نحو ما أسمّيه "المجرّدات". بقيت الناحية الاجتماعيّة، فميخائيل نعيمه على الرغم من إطلاق توفيق يوسف عوّاد عليه لقب "ناسك الشخروب"، هو إنسان عاش في مجرى الأحداث العالميّة، ولا ننسى أنّه عاش في نيويورك من العام 1916 حتى العام 1931، "الزلمي عاش في نيويورك"، فهو لم يعش على هامش المدن والمجتمعات وتراكيب المجتمعات.
وعلينا ألاّ ننسى أنه عاش في روسيا القيصريّة منذ العام 1906 حتى العام 1911. ونعرف أنّ روسيا في ذلك الوقت كانت تغلي غليانًا بالثورات، بل إنّ ثورة وقعت عام 1905 قبل حضور نعيمه إلى مدينة بولتافا ليلتحق بسمينارها عام 1906. إذًا القضيّة من ناحيتين تعني أنّ نعيمه كان مطّلعًا على الأوضاع الاجتماعيّة والطبقات الاجتماعيّة الروسيّة وأنّه كان مطّلعًا على الأوضاع الاجتماعيّة والطبقات الاجتماعيّة في أميركا. يُضاف إلى ذلك أنّه ينتمي إلى طبقة فقيرة تعمل في الأرض وتعيش من الأرض ولها. إذًا نعيمه من حيث خبرته الاجتماعيّة هذه الخبرة واسعة النطاق، زراعيًّا في لبنان، مدينيًّا في أميركا وثوريًّا في روسيا القيصريّة. بل إنّ بعض كتاباته يدلُّ من قريب على أنّه كان يتوقّع، بسبب الطبقات الاجتماعيّة التي كانت سائدة في روسيا القيصريّة آنذاك، ثورةً، وهذا ما حدث بالفعل، في ثورة أوكتوبر 1917. إذًا الناحية الاجتماعيّة لم تكن غريبة على نعيمه. قلت لصديقي خليل: أقترح عليك أن تدرس الناحية الاجتماعيّة وهي ثريّة جدًا. إلا أنّ المشكلة الأساسيّة هي أنّ مواقف نعيمه من المجتمع ليست نقطة انطلاق، بل هي نتيجة لأسباب، وعليك أن تركن هذه الأسباب لتفسّر مواقف نعيمه الاجتماعيّة. ويمكنك في ذلك أن تعوّل على ما قام به "لوسيان غولدمان" في دراسته مسرح راسين. درس غولدمان مسرح راسين لذاته وبذاته كما نقول بنيانيًّا وتكوّنيًّا ثم عندما أراد أن يفسّر المواقف الراسينيّة عاد إلى المواقف الجنسينيّة في فرنسا. نعرف أنّ راسين نشأ منشأة جنسينيّة ثم خالفها للركون إلى المسرح ولكن غولدمان يعتبر أنّ الآليّة والعقيدة الجنسينيّة كانت كامنة في أعماق أعماقه عندما بدأ يضع مسرحيّاته وهذا ما يظهر أكثر ما يظهر في مأساة Phèdre.
إذًا هذا ما قلته لأخي خليل. أنت حرّ في أن تقبل ما أقترحه عليك أو في أن ترفض وتختار موضوعًا آخر. ولكن لماذا اقترحت على خليل أن يعالج مثل هذا الأمر لأنّني كنت أعرف يقينًا أنّ له الاستعداد الكامل لمعالجة مثل هذه الأمور من خلال أطروحته الأولى في الحلقة الثالثة ومن خلال أحاديثنا الكثيرة. كنت أعرف أنّه يهتم بالشأن الاجتماعيّ وبالشأن الوطنيّ وبالشأن الإنسانيّ، وأنّ في كيانه من القوى الكامنة ما يستطيع أن يحقّقه وينجزه في هذا العمل.
جاءني بعد ذلك، وقال لي أقبل الاقتراح، وبدأنا العمل في الظروف التي أشار إليها د. أنطوان سيف (الحرب). يأتي خليل من أقاصي الأرض في الجنوب إليّ في بيروت أو إليّ في "الغينة"، فأطمئنّ إلى وصوله سالمًا وكان عليّ أن أطمئنّ إلى رجوعه سالمًا، فيعود سالمًا وأخاطر أنا بحياتي.
تلك هي الظروف التي وضع فيها خليل هذا العمل.
أرجو منه أن يعود إلى ص 545، وأن يذكر تحتها ما ذكره الأستاذ نعيمه لأنّ نعيمه كان يزن كلماته، وعندما يقول لباحث أنت تعرف نعيمه اكثر من نعيمه، يعني ذلك وهذه شهادة حق. في هذه الأطروحة نعيمه وجد نعيمه ولم يجد حيدًا عن أفكار نعيمه.
بالنسبة إلى القضايا المعالجة في هذه الأطروحة فهي القضايا الاجتماعيّة، وهذا ما سوف أقف عنده وقسّمنا العمل مع الدكتور أنطوان سيف، هو يهتمّ بالقضايا التكوّنيّة، الرؤية الكونيّة البنيانيّة وأنا أهتمّ بالنواحي الاجتماعيّة ثم يتصدى لنا الدكتور خليل فيعدّل في آرائنا ويقول ما يشاء.
أقف عند القضيّة الأولى وهي من القضايا التي اهتمّ بها الدكتور أبو جهجه في أطروحته، قضيّة علاقة الرجل بالمرأة. أُخبر انطلاقًا ممّا قاله وانطلاقًا ممّا أعرفه عن نعيمه وعن هذه الأطروحة. قال الدكتور أبو جهجه استنادًا إلى نظريّة نعيمه في المرأة والرجل: الرجل بعد تكوينه كان وحيدًا واحدًا لا واعيًا والمرأة ليست كائنًا مستقلاً عن الرجل فالله قد استلّها منه والرجل بعد خلق المرأة ازدوج فأصبح رجلاً وامرأة، هما الانسان. الرجل انسٌ والمرأة انسٌ وهما معًا انسان، مثنّى الانس الواحد جناحا الطائر الواحد والبشريّة الواحدة. وبعد الازدواج دخل الانسان أنس الرجل وأنس المرأة مراحل الثنائيّة، مرحلة الخطيئة بل كما يرى نعيمه مرحلة الخطأ. والخطيئة الأصليّة الأولى هي في رأي نعيمه الخطأ الأول وهذا الخطأ هو ظنّ الإنسان بأنّه يملك ذاتًا منفصلة عن ذات الله، ذات الانسان من ذات الله فكيف ينفصل عن الله؟ كيف يفصل ذاته عن ذات الله، غربة الإنسان عن الله تذيقه المرارة وعودة الانسان إلى ربّه هي عودة الإنسان إلى نفسه، أيّها الناس وحّدوا الله وتوحّدوا بالله وأيّتها المرأة وأيّها الرجل توحّدا لأنّكما كيان إلهيّ واحد. هذه هي القضيّة التي توصّل إليها د. خليل انطلاقًا من عقيدة نعيمه ويمكنني أن أوقّع عليها مباشرة ولا أعتقد أنّ الأستاذ نعيمه أنكرها في ذلك الوقت أو ينكرها الآن إذا كان هو يستمع إلينا لأنّه يؤمن بالتقمّص. إذن هذه الناحية في رأيي واضحة عند الدكتور أبو جهجه.
الأمر الذي يدعو إلى التساؤل والإشكاليّة التي تتضمّنها هذه المواقف، هي كيف أنّ نعيمه المؤمن بوحدانيّة الرجل والمرأة وتوحّدهما مع الله، كيف لا يقبل بالحركات النسائيّة الداعية إلى التحرّر.
في الواقع، في كثير من كتبه ومؤلّفاته عندما كان النساء يأتينه للإدلاء بآرائهنّ بالنسبة إلى الرجل وظلم الرجال للنساء وظلم القوانين للرجال، كان نعيمه في أكثر الأحوال لا يقبض المواقف الحركيّة النسائيّة مقبض جدّ. هذه هي الإشكالية، لماذا، لأن لنعيمه مفهومه الخاصّ المتعلّق بالحرّية، نعيمه لا يعتبر الرجل حرًا وباستطاعته أن يحرّر المرأة. كان يعتبر الرجل مستعبدًا شأنه شأن المرأة. تستعبد الرجل يستعبد المرأة، ليكن الرجل عبدًا فهو يجعل المرأة أحدًا. هذا هو موقفه من المجتمع. إنّ القوانين الاجتماعيّة جائرة، وهي لا تطبّق المبادئ الإلهيّة لا في الكون ولا في الحياة ولا في المجتمع، ولا في علاقة الرجل بالمرأة.
وما طمح إليه نعيمه لا أقول تحرّر الرجل من المرأة أو تحرّر المرأة من الرجل، بل وجهة نظر محدّدة تُحرّر المرأة والرجل ليسيرا معًا في طريق الحياة بغية إدراك الهدف النهائيّ، الذي حدّده الله للإنسان، إذَا قضيّة الحرّية عند نعيمه أعقد بكثير من قضيّة جمعيّة نسائيّة أو من التصدّي للقضايا الذكوريّة.
النقطة الثانية التي أقف عندها هي قضيّة الشيوعيّة والرأسماليّة. بطبيعة الحال عندما نطرح منهج لوسيان غولدمان نعرف أنّ غولدمان ماركسيّ وهو ينظر إلى المجتمع نظرة ماركسيّة. وهنا أتيح لنفسي أن أحدّد موقع نعيمه الطبيعيّ، ميخائيل نعيمه يعرف موقعه الطبيعيّ معرفة تامّة. كما قلت من قبل هو ابن عائلة فلاحيّة تعمل في الزراعة في الجرود. الآن أصبحنا نتغنّى بالشخروب ومشاعر نعيمه تجاه الشخروب، ولكن إذا نظرنا إلى بقعة الشخروب نعرف أنّها بقعة في الناحية الزراعيّة قاسية جدًا وقليلة الانتاج. كان والد نعيمه يكدّ ويكدح ليؤمّن معيشة عائلته. هذه الناحية جعلت نعيمه يعرف انتماءه الطبيعيّ منذ البداية. وأذكر حادثة وقعت له بعد عودته سنة 1932 إلى بسكنتا، إذ جاءت سيّدة من صديقاته قبل المهجر لتسلّم عليه أو بالأحرى ذهب هو ليسلّم عليها فمدّت يدها مسلّمة وقالت: "ما تواخذني ايديّ مخشربات" فسلّم عليها وقال: "ايدي ناعمة". فعقّب: "متى كانت اليد الخشنة التي تعمل تعتذر من اليد الناعمة التي لا تعمل".
نلاحظ قضيّة العمل الزراعيّ في صلب عقيدة نعيمه الطبيعيّة. الناحية الثانية وهي أيضًا من القضايا الطبيعيّة من حيث أسرة أمّه: نعرف أنّ خالَيه إبراهيم وسليمان هاجرا إلى مصر وجمعا ثروة وعادا إلى قرية بسكنتا وعمّرا بيتًا من قرميد، بيت من قرميد يعني الوجاهة في ذلك الوقت. أمّا بيت نعيمه فكان سطحه من طين وكان يُحدل في الشتاء والنمل يتساقط منه في الصيف. إذًا وعى نعيمه هذا الفارق الطبيعيّ بين عائلة والده وعائلة والدته، وكثيرًا ما كان يسأل أمّه لماذا نحن فقراء وخالي ابراهيم من الأغنياء؟ تقول له أمّه: هو معو مصاري ونحن ما معنا مصاري". ويجيب: "لماذا لا يعطينا مصاري؟
وهكذا الأمر بالنسبة إلى روسيا، عندما هاجر إليها، أو حتّى قبل روسيا، عندما ذهب إلى الناصرة وكان يرى في مدرسته مدرسة معلّميه، كان يرى الحجّاج الروس يأتون وفقرهم وعجزهم ليزوروا القبر المقدّس قبر المسيح. فكان يرى هؤلاء الفقراء وهم الذين يتبرّعون لإنشاء المدارس الروسيّة الأرثوذكسية. كان يقول من أسمال هؤلاء ندرس من فقرهم، إذًا النزعة الطبيعيّة رافقته حتّى الناصرة، وبعد انتقاله إلى روسيا ترسّخت هذه العقيدة. أقول: : في أثناء إقامته في روسيا القيصريّة اعتنق نعيمه، وأقول ذلك على مسؤوليّتي، وأعرف ما أقول، اعتنق نعيمه الاشتراكيّة، لا أقول الماركسيّة"،
لا ننسى، كما قلت الثورة التي حدثت في روسيا سنة 1905 قبل مجيئه، ولا ننسى أنّ نعيمه طُرد من معهد بولتافا. فقد شارك في إضرابه مرغمًا، إضراب نظّمه رفاقه الطّلاب وحملوه إلى المنصّة وطلبوا منه ن أن يلقي كلمة لتأن تنتنتأن يلقي كلمة لتحريض المضربين، وهو الغريب في روسيا والذي نال منحة من حكومة روسيا القيصريّة يهاجم روسيا القيصريّة في عقر دارها. فيُطرد من المدرسة ويسمح له بتقديم الامتحانات خارج الدروس ويدرس على نفسه ثم يقوم بتقديم الامتحانات. وقدّم الامتحانات ونجح.
رجع إلى أميركا، وظنّ الكثيرون أنّ الارتباط بين اليسار وبين الاشتراكيّة وبين نعيمه قد ارتخى بعد عودته إلى أميركا. وهذا غير صحيح. فالذين يقرأون مذكّرات نعيمه في أثناء محاربته في الجيش الاميركيّ، يعرفون أنّ نعيمه يحمل الجنسيّة الاميركيّة، مزدوج الجنسيّة: اللبنانيّة والأميركيّة، عندما حارب في الجيش الأميركيّ "كنت أزداد تطرفًا من الناحية اليساريّة، ولكنّني أخفي ذلك على رفاقي الجنود كي لا يدركوا مثل هذا الأمر".
أعتقد إذا نظرنا في مواقف نعيمه الاجتماعيّة، نحن لا يمكننا أن ندرجه إلا ضمن تيّار اليسار. ولكن إذا نظرنا في عقيدته الكونيّة، هنا أوافق الدكتور أبو جهجه على ما قاله: إذا أردنا أن نفسّر هذه المواقف الاجتماعيّة فإنّنا سوف نعتبرها بطبيعة الحال نتيجة طبيعة مواقفه التيو-صوفيّة الروحيّة. وإذا قلنا الاشتراكيّة واليساريّة والماركسيّة فنحن نعني المادّية، علمًا بأن مذهب نعيمه الباطنيّ هو مذهب روحانيّ مثاليّ. المادة بالدرجة الأولى في سلّم العقيدة الماركسيّة، بينما الروح هي الأساس في عقيدة نعيمه.. الروح قبل كلّ شيء، المُثل قبل كلّ شيء، الله قبل كل شيء، هذه الأمور هي التي جعلت مواقف نعيمه الاجتماعيّة على يساريّتها قائمة على مواقف مثاليّة باطنيّة روحيّة.
النقطة الثانية التي أقف عندها، الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة، وقف عندها أيضًا الدكتور أبو جهجه. نعرف أنّ جبران كان يقول: أنا مواطن عالميّ. ولكنّه كان يردّد من ناحية أخرى، "لو لم يكن لبنان وطني، لاخترت لبنان وطنًا لي". إذًا نلاحظ من ناحية أولى النزعة العالميّة الإنسانيّة، لكن من ناحية ثانية التمسّك بالجذور. وهذا ما نلقاه عند نعيمه، نعرف أنّ نعيمه كما ذكر أبو جهجه يعتبر النزعة الوطنيّة عادة والوطن عادة.
في مذكّرات الأرقش الذي بدأ نعيمه تأليفه عام 1917 وأنهاه عام 1949، في هذه الفترة الطويلة من 17 إلى 49 يُظهر بكلّ وضوح الأرقش من الناحية الفكرية مستعدًّا لأن يتخلّى عن أيّ بقعة من الأرض لأيّ إنسان يزاحمه عليها وان اعتبرت وطنًا. ويقول "ها أنا لا وطن لي ولا أعيش بأيّ مرارة". لا بل يضيف "أنا ابن هذا الوطن الأوسع لا أنتمي إلى بقعة من البقع" ولكنّ الغريب هنا أيضًا، والإشكالية هنا أظهرها الدكتور أبو جهجه: أراد نعيمه توحيد الكون بكامله.
أزيلوا الحدود بين جميع أقطار العالم، وحّدوا الكون كما يحصل في أوروبا اليوم. وحّدوا الكون. ألغى الحدود وألغى الأوطان. أمّا أنا فأقول له: "طلّعت لبنان من الباب وفوّتو من الشبّاك". ثم دعا في دولة الإنسان أن تكون عاصمة دولة الإنسان "لبنان". نوحّد الأرض في دولة واحدة وهي الإنسان. طبعًا هنا يعدّد الميزات ومن هذه الميزات تعدّد الطوائف اللبنانيّة وأيضًا جبال الطبيعة اللبنانيّة وموقع لبنان الجغرافيّ. لا أوطان، لا يريد نعيمه أوطانًا توحّد الأرض ولكنّه يوحّد الأرض ويجعل لبنان عاصمةً لها. ثم عندما سئل عن التقمّص من أين وإلى أين؟ قال: من الشخروب وإلى الشخروب. بيطلع من الشخروب وبيرجع بتقمّص إلى الشخروب. وهذا أيضًا دليل على التمسّك بالجذور الوطنيّة، وأيضًا نعرف أنّ نعيمه أوصى أن يُدفن في الشخروب حيث ينام مستريحًا.
قضيّة الحاكم والمحكوم أشدّد على هذه الناحية أيّ ناحية السلطة. كلّ سلطة برأي نعيمه تسلّط، لا يحقّ لأي إنسان أن يحكم أو أن يتحكّم في أيّ إنسان آخر. الناس سواسية كأسنان المشط، هنالك تعاون وأخذ وعطاء بين الناس. وأعتقد بأنّه كان يحلم بنوع من التنظيمات التعاونيّة اللامركزيّة القائمة على أساس البلديّات وآمل أن نصل إلى مثل هذا الأمر، وأن تتولى الدولة ليس التسلّط بل إدارة هذه التعاونيّات وإقامة التوازن بينها. إذًا كلّ حاكم متحكّم برأي نعيمه وهذا هو رأي جبران أيضًا.
النقطة الأخيرة، المُستغَلّ والمُستغِلّ أيضًا أثارها الدكتور أبو جهجه. نعرف أنّ نعيمه يرفض الاستغلال، ويدعو إلى الإصلاح، ومن فكرة الإصلاح ومصلحٍ يكون الإصلاح نتيجة عقيدته.
عند نعيمه الإصلاح هو نتيجة عقيدة، وهذه العقيدة أشدّد في جوهرها العميق مسيحيّة قائمة على المحبّة، قائمة على المساواة، دينيّة قائمة على الأخوّة البشريّة. نحن جميعًا أبناء الله، لذلك يجب أن نكون متساوين وأن تقوم بيننا العدالة.
يقولون هذا المجتمع هل هو مجتمع واقعيّ الذي يدعو إليه نعيمه أو مجتمع "يوطوبي" (مثالي). نعيمه يعتبرنا أطفالاً لا نزال في مستهلّ الطريق والله واسع الصدر كبير الصبر يتيح لنا في الأعمار تلو الأعمار ما يمكّننا من أن نحقّق المُثل التي نتوق إليها لكي نرتقي أو نرقى إليها شيئًا فشيئًا.
[1] خليل أبو جهجه، "الرؤية الكونية في أدب ميخائيل نعيمه"، منشورات اتحاد الكتّاب اللبنانيين، 2004.

التقنية المسرحية في "فيفا لا ديفا" لهدى بركات

نادي الكتاب اللبناني - انطلياس
22-1-2010
المحتويات
1 - كسر الإيهام
2 – السرد
3 – التناص
4 – الخلفية الاجتماعية
5 – اللغة
6 - العبث
1 - كسر الايهام
من بداية المسرحية يظهر ميل المؤلفة إلى كسر الإيهام، فالإيهام يعني اقناع المشاهد بأن ما يشاهده واقع وحقيقة، وكسر الإيهام غرضه إعلام المشاهد بأن ما يشاهده مسرحية أي عمل تخييلي، وكسر الإيهام يظهر في قول المرأة: "الأسود عالمسرح مش كأنو اسود..." و"قلتلو للمخرج"، فذكر المسرح وذكر المخرج يعنيان مباشرة أننا إزاء مسرحية ولسنا إزاء واقع، وهذه التقنية تقع على طرف نقيض من مبدإ المحاكاة الكلاسيكي Mimésis الذي نصّ عليه أرسطو في كتابه "فن الشعر"، مما يعني اننا نواجه عملًا غير كلاسيكي وبالتالي لا يرتكز على تقليد الواقع أو محاكاته وإقناع القارئ بأن ما يشاهده هو الحقيقة.
وكسر الإيهام يتكرّر في تعقيب الممثلة على الدور الذي تؤديه، وهو دور فتاة مات والدها، فتقول: "وصير مثِّل وقول (تتصنع البكاء)، يا ويلي، يا دلي مات بيي.. أكبر ممثلة وما كنت أعرف مثِّل إنو بيي مات..."[1]، ويلي ذلك ذكر التمرين على دور الفتاة التي مات أبوها: "... أعرف عا انو مات وما راح يرجع... واحفظ بـ راسي إني عم صير يتيمة... شي متل التمرين"[2]، وتضيف: "ما اعرف ركِّب مشهد بـ راسي"[3]، و"ارجع شوف حالي بالتمرين"[4]، ومع ان المسرحية تكاد تكون من نوع المونودراما القائمة على وجود شخصية واحدة، ومونولوغ يمتد من بداية المسرحية حتى نهايتها، فإن وجود الملقِّنة يُدخل فيها الحوار الثنائي ويُدخل معه عملية كسر الإيهام بوضوح، فالملقِّنة وظيفتها مسرحية قبل كل شيء، وتذكِّر بأننا ازاء عمل مسرحي[5]، ويبلغ كسر الإيهام مداه عندما تقول الملقِّنة منبهة المرأة: "مفكرة انو الادوار المسرحية حياة، وانو المسرح حقيقة"[6].




2 - السرد
وبما ان المسرحية عمل سردي فسوف نقع فيها على حكاية أي مجموعة احداث تقع متسلسلة، فتتعاقب وتتطور حتى تبلغ النهاية، وبما اننا ازاء تمثيلية فهذا يعني أن المرأة سوف تمثل دورًا أو عدّة أدوار تنحبك لتؤلف نسيج المسرحية، ومنذ البداية نبيّن الدور المزمع تمثيله يتعلق بوفاة والد شخص بل شخصية: "أهم انسان بْـ حياتي مات... كنت فكِّر بس يموت بيّي راح موت وراه..."[7]. والدور الثاني الذي تلعبه المرأة هو دور الأم التي تقرأ لطفلتها "قصة يوسف"[8]: "قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك..."[9]. وتتابع دور الأم ولكنها تتطرق هذه المرّة إلى عاشوراء: "ما بيقدر الواحد ما يبكي من قحوف قلبو هوِّه وعم يسمع عاشورا..."[10].
ثم تنتقل إلى دور المقرئة: "السلام عليك يا ابن عبد الله... السلام عليك يا ابن بنت رسول الله..."[11]، وتنتقل من دور الأم إلى دور المرأة المزمعة على الهجرة متابعة الموضوع الأول في المسرحية: "عال كندا.. شو بها كندا! عشر ملايين كيلومتر مربع أحسن من عشرة آلاف..."[12]، ولكن هذه المرّة من وجهة مسرحية: "كندا بلد كبير، واسع، طويل، عريض، فيه ملايين البشر.. والمسارح"[13]. ثم تلبس شخصية ماريّا كالاس وحبها لأريستوت اوناسيس وخيانته لها: "حب نسوان غيري وما تخليني أعرف.. كزِّب عليّ.."[14]، وزواجه بجاكي كيندي[15].
وتنتقل إلى تمثيل دور الملك لير في مسرحية شكسبير: "ما حدا بيحبني.. لاني ختيار، ولأني ملك.."[16]، ثم موضوع الضابط النازي وتصرُّفه الشائن مع صوفي وولديها: "عا مدخل معتقل اوشويتز كان هُوس ضجران.."[17]، ثم دور مزدوج: مسلح على حاجز ورجل عابر سبيل[18]، ثم دور اللايدي مكبث في مسرحية شكسبير[19].
3- التناص
والأمر الثالث الذي تطالعنا به المسرحية هو التضمين أو التناص، فالمسرحية تشير منذ البداية إلى قبعة سوداء، وتذكر أنها مستوحاة من إبسن، وتحديدًا من مسرحيته "بيت الدمية"، كما ورد في الصفحة 75 في فهرس أسماء العلم الأجنبية الواردة في نص المسرحية، والتناص وارد في الصفحة 11 بذكر مسلسل "ألو حياتي" و"لا تبك يا حبيب العمر"، وسوف يتكرّر مرارًا في المسرحية، والتناص الآخر في المسرحية يكمن بالإشارة إلى انتيغون بطلة مسرحية سوفوكليس وبالتالي انوي[20]، ونجد التناص في النص الديني المتعلق بقصة يوسف[21] ومسرحية Master class[22].
ويتوالى التناص في المسرحية، المتعلق بالموسيقى خصوصًا، بما أن ماريا كالاس، وهي مغنية الاوبرا الشهيرة ذات الأصل اليوناني، والصوت الاوبرالي الرائع، شاركت في أفلام وأوبرات، منها فيلم بازوليني ميديه، واوبرا بليني نورما، وبوشيني لاتوسكا[23]. وفي نطاق الموسيقى، وامتدادًا لدور ماريا كالاس يرد ذكر أم كلثوم، والشحرورة، وأسمهان، ونور الهدا، ولا تذكر فيروز لأنها تعتبرها ملاكًا وليس امرأة[24] ، وتذكر الديفا مقرونة بالخلود[25]، وفي نطاق التناص، يردُ ذكر مسرحية شكسبير "الملك لير"، لأن المسرحية تتعلّق بموقف بنات الملك لير الثلاث من والدهن، والأمر مرتبط بموقف المرأة في المسرحية من والدها العجوز[26].
ويطرد التناص بذكر ساره برنار ودورها في مأساة أتالي لراسين[27]، ورواية ستايرون "خيار صوفي"، ومسـرحية "ماكبث" لشكسبير مع تشديد على دور اللايدي ماكبث في الجريمة: "ما في قتل بلا مرا "ما في حـرب بلا نسـوان"[28]، "القصـة قصة اللايدي ماكبث بالاساس"[29].
وينتهي التناص بمسرحية "الذباب" لساتر، والعبرة منها: "بتفوت الدبانة بعين التيس القايد القطيع بتعميلو قلبو.. ما بيعود قاشع قدامو..، والقطيع لاحقو.. بيتهور، وبيهور القطيع وراه[30]، ناهيك من نيرون الذي ستحرقه روما هذه المرّة، وشعب صور يقول: "... تعو نحرق حالنا تا نربّي الاسكندر الكبير"[31].
4 - الخلفية الاجتماعية
وعلى الرغم من كسر الايهام نجد في المسرحية خلفية اجتماعية، بل نقع على أحداث تنتسب إلى الواقع، وقد وردت في المسرحية في سياقات نقدية، ورؤية إلى ما يقع خارج خشبة المسرح، وأول النقد يتناول الحرب اللبنانية، وقول المرأة: "أتخيل انو بيي مات بْـ منطقة غير منطقتو، وإنو لازم إقطع فيه خطوط التماس، وحواجز، وبلاوي، تافيني اقبرو حد اهلو..."، وألفت إلى كلمة "بلاوي" وكذلك: "صرت قلن للمسلحين"[32].
5 - اللغة
وفي المسرحية مستويان لغويان، أو سجلان ينتمي أولهما إلى العامية، وفيه الكثير من الجرأة الشائعة في أدب المرأة اليوم، ومثاله قول المرأة عن شيخوخة أبيها: "... يضل يختير تا يخرف، وجيبو لـ عندي عالبيت، يشخ ويخرا تحتو تا إزهق"[33]، وإلى جانب اللغة الدارجة لغة فصحى مثالها ما ورد على لسان "انتيغون": "نحن الذين نصرخ بالأسئلة حتى اختناق آخر الآفاق لا نرضى حلولًا إلاّ الأجوبة الكاملة المدورة المسدودة..."[34]، والموضوع اللغوي الثالث هو التداخل Interférence بين العربية والفرنسية، ويظهر في قول المرأة "ويعمل "ميناج" و"غران ميناج"[35].

وتظهر اللغة الدارجة ثانية في رد المرأة على الملقنة بقولها: ".. حلي عن ربي.. كلي خرا..."[36]، وتعود الكاتبة إلى سجل الفصحى في قصة يوسف[37]:
"... إن الشيطان للإنسان عدو مبين... إن ربك عليم حكيم، قد كان في يوسف وأخوته آيات للسائلين..."[38]، ونقع على المستوى الدارج واللغة الفصحى والتداخل في سياقات المسرحية كلها، وهذا يدل على أنها من الثوابت في لغة المسرحية، وأمثلة ذلك من سجل الدارج وفق تواليها في أقوال الملقنة والمرأة خصوصًا: "لا يا حمارة"[39]، "العالم كلو بينحني عا صرمايتك"[40]، "والبلد مطيز"[41]، "بدي اترك هالبلد الخرا"[42]، "ليك شخ تحتو العرْص"[43]، "إزا بيضاتو تقال"[44]، "هوه وعم يركبها"[45]، "عاطيزنا الاسكندر"[46].
ومن سجل الفصحى، وهي أقل ورودًا من العامية في المسرحية إذ المسرحية مكتوبة بالعامية أصلًا، القول التالي بلسان اللايدي مكبث من مسرحية شكسبير: "ايه ايتها القوات التي توحي بنيات القتل. جرديني من أنوثتي، أفعميني جفوة وقسوة من رأسي إلى قدميّ، أقفلي في ضميري كل منفذ تعبر منه الشفقة"[47]، وكذلك من الفصحى المنتسبة إلى الباروديا الساخرة (Parodie): "وكأنه يمكن أن ينجح فيديو كليب ويكتسح الشاشات على خلفية حرب العراق والصراع العربي الاسرائيلي"... من دون هزّة قفا، أو خلعة خصر..."[48]، ونلفت إلى المزاوجة بين الفصحى والعامية في الأسلوب الساخر الناقد. وأنهي من سجل الفصحى: " لا تبنى الأوطان إلا بالحروب" بشلالات الدم... الدم زبل الأوطان، سماد الحرية، زيت ماكينات التاريخ... رايات بأسنا العظيم تشق الحجر... مقابر مسوّرة بالسرو يهدهدها قمر أعجف مفلطح..."، وتعقب الملقنة على قول المرأة هذا قائلة: "أيوه! أيوه.. هيدا حكي.. الله مع دواليبك... اكرجي..."[49].
أما التداخل بين الفرنسية والعربية، وهو من قبيل احتكاك اللغات, فشائع في لغة المسرحية، وأمثلته متوالية: "ديبو"، "اتمكيج"، "الكود"، "مينيموم"[50].
6 – العبث
وتظهر ملامح العبث في المسرحية عندما يرن الهاتف وترفع المرأة السماعة المقطوعة الشريط[51]، وتمضي تخاطب ابن أخيها المتصل من كندا على مساحة أكثر من صفحتين[52]، ويختلط في حديثها المعقول باللامعقول، وتتداخل الأمكنة والشخصيات وتتعدّد، وتنتهي المكالمة بقول المرأة، وهي تنظر بثبات إلى الهاتف: "يمكن ما حدا ناطرني.. ويمكن ما عندي إبن خيّ بْكندا.. ويمكن هالتلفون ما يرنّ.. ويمكن شريط ومقطوع مش "هاندي"[53].
ومع ذلك يرن الهاتف ثانية في نهاية المسرحية، وتقبل المرأة تعزية المتصل، ربما بوالدها الوارد ذكر موته في بداية المسرحية، وتنتهي المسرحية بالاتفاق على دبلجة مسلسل مكسيكي فائق القوة[54].


[1] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، دار النهار للنشر، بيروت، 2009، الصفحة 12.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 14.
[3] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 14.
[4] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 16.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 27.
[7] هدى بركات، مسرحية "فيفا لا ديفا"، الصفحتان 11 – 12.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[9] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[10] المصدر نفسه، الصفحة 20.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 21.
[12] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 15.
[13] المصدر نفسه، الصفحة 24.
[14] المصدر نفسه، الصفحة 30.
[15] المصدر نفسه، الصفحتان 31- 32.
[16] المصدر نفسه، الصفحة 41.
[17] المصدر نفسه، الصفحة 47.
[18] المصدر نفسه، الصفحة 49.
[19] المصدر نفسه، الصفحات: 51، 58، 59، 61، 64.
[20] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 15.
[21] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[22] المصدر نفسه، الصفحة 29.
[23] المصدر نفسه، الصفحتان 33 و76.
[24] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحتان 33 و 37.
[25] المصدر نفسه، الصفحة 32.
[26] المصدر نفسه، الصفحة 40.
[27] المصدر نفسه، الصفحة 43.
[28] المصدر نفسه، الصفحات 51، 85، 59.
[29] المصدر نفسه، الصفحات 61، 64، 70.
[30] المصدر نفسه، الصفحة 64.
[31] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 66.
[32] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 16.
[33] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 13.
[34] المصدر نفسه، الصفحة 16.
[35] المصدر نفسه، الصفحة 18.
[36] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[37] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[38] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحتان 19 و20.
[39] المصدر نفسه، الصفحة 23.
[40] المصدر نفسه، الصفحة 40.
[41] المصدر نفسه، الصفحة 34.
[42] المصدر نفسه، الصفحة 36.
[43] المصدر نفسه، الصفحة 50.
[44] المصدر نفسه، الصفحة 62.
[45] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[46] المصدر نفسه، الصفحة 66.
[47] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 58.
[48] المصدر نفسه، الصفحتان 63 و64.
[49] المصدر نفسه، الصفحتان 69 و70.
[50] المصدر نفسه، الصفحات 26، 28، 39 و63.
[51] هدى بركات، "فيفا لا ديفا"، الصفحة 52.
[52] المصدر نفسه، الصفحتان: 52 و54.
[53] المصدر نفسه، الصفحة 55.
[54] المصدر نفسه، الصفحتان: 73 – 74.


.

الرؤية الساخرة في "قصة فنيانوس لشكري الخوري"


نادي الكتاب اللبناني
1 – 12 - 2009




رؤية شكري الخوري في "قصة فنيانوس" رؤية مرحة، ساخرة، خفيفة الظل، حاضرة النكتة، تواجه أدق القضايا وأصعبها، وفي كثير من الأحيان آلمَها، بروح الدعابة والرضى والاقتناع والقناعة، ولعل هذه الصفات من مرح وسخرية وخفة روح وقناعة هي التي أمّـنت لهذه القصة العبور من جيل إلى جيل منذ صدورها في العام 1902 في سان پاولو في البرازيل حتى يومنا هذا.

1 - وأول ما يلفتنا في "قصة فنيانوس" أسلوبها العامي البسيط، البعيد عن التكلّف، وهذا الأمر وعاه المؤلِّف شكري الخوري منذ بداية القصة، إذ تساءل "...عمّا إذا كان الأسلوب العامي يروق عند قرّاء..." الجريدة، ثم أجاب بأنه يروق لهم لأنه ما "... في متل البساطا بالدنيه... وريتو يقبر حالو كل متصنع ومتكلف"[1]، ثم عاد وألحّ على فائدة استعمال اللغة العامية، و"... استحسان كتابة الفصول باللغة العامية في الجرائد وغيرها، لأن الشعب لم يزل أكثره بسيط متل حكايتي، فهذا بدّو كمان شي بسيط حتى يقدر يفهم ويستفيد ويصير عنده رغبة للمطالعة..."[2].
والعامية ليست قاصرة على اللهجة اللبنانية بل هي تطول اللهجة المصرية بقالب من السخرية، فذا فنيانوس الذي مرّ مرور الكرام بالاسكندرية لقط اللهجة المصرية على الطائر، وراح يخاطب صاحبه "أبو الأجران" بالمصرية قائلًا: "... لبستلك الطربوش، يا بو الاجران... ما بقا أبدع من هيك ولا ألطف من كدا.
- مبين تعلمت حكي المصريّ
- أمّال ايه، يا خي، دنا من وقت اللي حطيت رجلي عالبرّ، ما كنت اسمع الا كلمة كدا وكدا هو. وكدا أمّال، وداهيا تشيلك كدا. والحاله كلها كدا بكدا..." [3].
* بعدهم بينادو... وبيغنو عالفاكهة؟
- معلوم... لكن في مسألة ما كنت أقدر حلّها وهي كل الخضار والفواكه بينادوا لها: يا "لوبيا". الخيار لوبيا، والبتنجان لوبيا، والفجل لوبيا، والفول الأخضر لوبيا، والقرع لوبيا، واللوبيا لوبيا. يفضح ديبهم! كلُّو لوبيا بلوبيا.
* اللوبيا يا فنيانوس، بيعنوا فيها الشي الطري، وبدل ما يقولوا طرية مسطلحين عاكلمة لوبيا.
- والغريب اللي متل درب حكايتي شو بيعرّفو؟ بيخمّن انهم ما بياكلوا إلاّ لوبيا"[4].

2 - وإذا كانت اللوبياء المصرية موضوع تنكيت فإن الحوار باللبنانية بغية الاطمئنان عن صحة المتحاورين مدار نقد مبطن وفكاهة، فاللبناني يسأل عن كل شيء ولا يترك لمن يخاطبه أو يسأله مجالًا لأي إجابة، وهذا ما يمثله الحوار التالي بين فنيانوس و"أبو الاجران":
* "فنيانوس ولاّ غلطان؟
- لا، موش غلطان. فنيانوس وشقفه. وإنت، موش أبو الاجران وِلاّ أنا عميان؟
* أبو الاجران ونكعه... اهلا بفنيانوس. كيف حالك، كيف خاطرك؟ كيف صحتك؟ انشاالله مريَّض! كيف حال من فارقت؟ (صبور تا آخذ نفس)... كيف كَيفك؟
- الحمدلله... وانت كيف حالك؟ كيف صحتك؟ مشتاقين يا بو الاجران، وين كل هالمدة؟ ما حدا سامعلك حس ولا حسيس"[5].
وهكذا يجري الحوار وكأنه حوار طرشان، فهناك من يسأل ولا يهتم بأن يسمع المسؤول أو بأن يجيب.

3 - ومنذ الوصول إلى مرفإ بيروت يبدأ التنكيت على طريقة المعاملة، فالتسعيرة حسب بلد المنشإ، فالآتي من مصر له سعر لنقله من الباخرة إلى الرصيف والآتي من أميركا له سعر أعلى، قال فنيانوس واصفًا ما حدث له هو وصديقه:
"... وما لِحْقِت السفينة ترخي الياطر إلا وجولك البحرية متل الغضب!... قاولنا بحري اسمو الحج شمطو بريال مجيدي ونزلنا. وعند وصولنا عالبر ناولتو المجيدي... ما لقيتلّك ياه إلاّ مفنجر عينيه فيّ... وقلّي: "إنتو جايين من أميركا، واللي بيجو من أميركا مفروض على كل رأس ليرا انكليز". قال "على كل راس"... ما كأَنا إلاّ غنم. قلتلو: "نحنا جايين من بر مصر يا حج شمطو، مش سامعني إذّاي (إزّاي) عمال اكلمك مصري كدا هو؟".
... قام المحروس اللي معي.. قلّو: "نو سنيور، نحنا موش جايين من أميركا". ولما سمع عمّك الحج شمطو كلمة نوسنيور قال: "آه ما دام المسألة فيها نوسنيور، دفعوا... كل واحد ليرتين"، وهكذا حدث[6].

4 - وتبقى طريقة استقبال الأقرباء وأهل الضيعة للمغترب العائد، وهي قائمة أساسًا على الأكل والتبويس ووفاء النذر، وكلها مواضيع تندُّر وتفكهة في "قصة فنيانوس"، فصاحب الدكان بومرعي "جاب لبن وجبن وتين وخبز مرقوق، اللي ما بتهضموا إلا مويّات لبنان، وبلَّشنا إيد طالعا وإيد نازله، ويا بلْع سلّم عالزّلع... وكمان ما عدت خلصت من عمتي... كل شويه وتدعقلي لقمة قد مخّك وتقلّي: - كول، يا روحي، كول. ريتن يمروا عاذُكرتك..." [7].
وما ينتظر فنيانوس في الضيعة أشد وأدهى، قال يصف ما حدث له: "...اجتمعت كل الضيعة للسلام على داعيك. شي كبير وشي صغير، وشي مقمط بالسرير، وشي بروس وشي من غير روس. وخلايق الله واستغفر الله. وبلش طعْق البَوس، اللي يشوكوني بشواربن، واللي يلوّتوني بزاق... اكتر من تلات اربع تيام بدون انقطاع، تاهلكت من التعب، وورموا شفافي، وصاروا متل شفاتير العبيد من كتر التبويس..."[8].
ويلي التهنئة بالعودة السالمة رد الزيارات للمهنئين وما يرافقها من مآدب ومآكل، قال فنيانوس واصفًا ما تعرض له من تكريم:
"وبعده... جا دوري برد السلامات... وصار عمك فنيانوس يتنقّل ويتفتّل من بيت لبيت؛ هون كاس عرق، وهون كباية نبيد، وهون عزيمة، وهون لقمة كبّة نيّة. وهونيك محشّاية، وهون معلاق، وهون قومه وهون قعده تا استويت"[9].

5 - ويلي ذلك وفاء النذر، فعمّة فنيانوس أم سكحا نادرة شمعة طوله لمارعبدا المشمّر إذا رجع فنيانوس بالسلامة، وهذا ما قد تمّ، وعليها وعليه وفاء النذر[10]، ومارعبدا بعيد، ونترك الحديث لفنيانوس وأبو الاجران في هذا الأمر، قال فنيانوس لأبو الاجران: "...حزور قديش يبعد عنا مارعبدا. ساعتين – شو بتقول؟! ساعتين؟ بزُق من تمك، يوم كامل. قال: وبدنا نروح حافيين كمان، هي المصيبة. وغلْبت وأنا قلّها: "يا عمتي، عما القراق انشاالله، سمعي قشعي! بلا هالمشوار، عندنا هون مار عبدا اللّي من غير تشمير؛ خلينا نقضيها بلاش هالعذاب". أبدًا، ما يقطع عقلها الا المشمّر..."[11].

6 - وبعد وفاء النذر بدأت المشاكل بين فنيانوس وعمته أم سكحا بالنسبة إلى العمار، فقد قرّر فنيانوس تعمير بيت يؤويه بعد زواجه، هو يريده لنفسه ولعمته وللعروس وحسب هندسة عصرية، وعمته تريده خلاف ذلك "حتى ضجروا الشغيلة وعافوا دينهم"، خصوصًا عندما زعقت على مدى صوتها: "-القن!! مبين موش عاملين قن!
قلتلاّ: يا عمتي لشو القن، هلق بعد بيعملو قنان؟
هالحكي كان عا ايام بواريد بوفتيل!
يا لطيف! وقامت فعطت فيي صوت طوّشني وقالت:
- البيت بيكون من غير قن ويوك وطاقا للبسيني؟
وصرت احكي معها برواق وقلها: يا روحي، ريتك تقبريني هالموضى بطلت...
قالت: أبدًا! القن واليوك قبل كل شيء، والا يا انا يا انت بهالضيعا..."[12].
وانتهى الجدال بين فنيانوس وعمته ام سكحا بمعركة كسرت فيها يدها من الكوع.

7 – أمر آخر يتناوله شكري الخوري بالتنكيت وهو الطب القروي، أو طب العجائز، فمن كرْع العرق وكثرة التخبيص بالمآكل برَك فنيانوس بالفرشة، وصار ممعودًا، وكانت عمّته أم سكحا الطبيب المداوي، ساعة تعمل له لزقة من حشيشة القزاز المقلوعة من حيط الكنيسة، وساعة تداويه بقطنة مبلولة بزيت قنديل الكنيسة، وساعة تلبسه طوق قزحيا، وساعة تبخره وساعة تحدله بمحدلة مار نهرا، وأخيرًا قررت أم زخيا أن معدة فنيانوس نازلة ويلزمها شيل، "وجابوا قدرة صغيرة وحطوا فيها ورق وعطوه نار وحطوها عا معدتي... حسيت روحي طلعت... والمقصوفة العمر، هي شيّالة المعدة، تقلها لعمتي: "شدي عا بطنو تاقلك. بدي طلعها إيد بإيد..."[13].
وبعد البحث والتدقيق "... قامت واحدة من المحروسين العجايز قالت: ... مسألتك عين، ما بيلزمها لا حكمة ولا شي. بدها نتفة رقوة تا نعرف مين اللي صابك بالعين"[14].

8 – ومن المضحكات في القصة طريقة فنيانوس في الغزل، فهو يريد أن يتزوج "قرقورة" من ضيعته، ولكنه رجل خجول، فهو عندما يتعلق الأمر بالحب والغزل والمرأة، يعجز عن الكلام، ويرجف مثل الورقة، ويدق قلبه، و"بطاتو بصيرو يلقّوا"[15]، ولذا يلجأ إلى طرق عجيبة غريبة للفت انتباه عروسة المستقبل، مرّة ينقفها بالملبس ولا يدعها تراه ومرّة يتنحنح ويلبط برجله وهي لا تلتفت إليه، فيوقع المحدلة عن السطح فتظن العروس ان إنسانًا وقع، ومرّة لطى لها قرب العين وهي تحمل جرّتها على رأسها وفاجأها بغتة بالسلام، فـ"قبطت ووقعت الجرّة"، وهكذا طارت "القرقورة" وتبخّر الزواج[16].

9 – ومن المضحك المبكي في القصة طريقة ندب الموتى ونعتهم بصفات لا تنطبق عليهم، وأقوال الندابات العجيبة الغريبة فيهم، فعمة فنيانوس القروية المحافظة في عقليتها وثيابها تصبح متأنقة بعد موتها تلبس على آخر طراز، ويعلق فنيانوس على ندب عمّته قائلًا: "واللي زادني بكي وعياط ندب النسوان، كان في هوني واحدة صوتها طيب وبلشت:
"وينك رايحا يا لابسه الموضا؟ ووينك رايحا واليوم ممروضا؟".
قال عمتي لابسه الموضا"[17].
ويتكرّر الأمر بعد موت أبو الاجران، فذا فنيانوس يطلب من أم موسى أن تندبه قائلًا:
"- دخلك يامّ موسي، عملي من قيمتو، وندبيلك شي ندبه تكون عا خاطرك. هيك، تبكي الصخور.
- واجب، ناولني نقطة موي تابلّ ريقي، قبل:
يا سيدي ويا بن السيد، مسافر والبلاد بعيد
بنطلون ما خدتوا وايش بتلبسوا عالعيد؟
ردّ عليي، يا فنيانوس ردّ!
يا سيدي ويابن السيد، مسافر والبلاد بعيد
محشي ما خدتوا معكم، وايش بتاكلوا عالعيد"[18].

10 – ومن الثوابت المضحكة في قصة فنيانوس النكات المستمدة من عالم الحيوان، فهي بعد الفكاهات المقتبسة من عالم المآكل من أكثر النكات شيوعًا في القصة، ومثالها الحديث التالي بين فنيانوس وأبو الأجران، قال فنيانوس:
".. لما وصلنا، يا سيدنا مِلاّ إنت، إلى سكندرية طلع عابالي النزول عالبر تا اتفرج عالبلد، قول نزلت أنا وواحد ابن عرب آدمي ولطيف متل حكايتك، ولكن حمار شوي.
* متل حكايتي آدمي ولطيف، ولكن حمار شوي!...يا مضروب الدم. حمار أنا. آه؟!..."[19].
كثيرة هي الأمور المضحكة المبكية في قصة فنيانوس، ومنها الانتقادات الموجهة إلى المجتمع بسبب البرطيل وظلم المحاكم والاعتقاد بالاحلام والأوهام، تُضاف إليها شخصيات طريفة كشخصية فنيانوس وأبو الأجران وأم سكحا ورفيق فنيانوس وأبو مرعي والكاهن وأم موسى، وكلها شخصيات مهضومة فكهة حاضرة النكتة والبديهة تستمد من شخصية مؤلفها شكري الخوري روحًا مرحة قريبة من القلب خفيفة الظل والدم.

أسئلة:
1 – الأسلوب واللغة العامية.
2 – الحوار بغية الاطمئنان عن الصحة والأهل والأشغال والأحوال.
3 – طريقة استقبال البحّارة للمغتربين واستغلالهم ماديًّا.
4 – طريقة استقبال أهالي القرية للمغترب من مآكل ومآدب حتى المرض.
5 – النذورات، وخصوصًا النذر لمارعبدا المشمّر.
6 – بناء البيت والقن واليوك وطاقة البسينة.
7 – الطب القروي.
8 – طريقة فنيانوس في الغزل تمهيدًا للزواج.
9 – طريقة ندب الموتى.
10 – النكات المستمدة من عالم الحيوان.
11 – شخصيات القصة المضحكة الضاحكة.




[1] شكري الخوري، قصة فنيانوس، منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك، 2009. الصفحتان 49-50.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 51.
[3] المصدر نفسه، ص 56.
[4] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحتان 58-59.
[5] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 54.
[6] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحتان 60-61.
[7] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 66.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 69.
[9] المصدر نفسه، الصفحة 70.
[10] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 64.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 80.
[12] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحتان 85-86.
[13] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 71.
[14] المصدر نفسه، الصفحة 72.
[15] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 75.
[16] المصدر نفسه، الصفحة 74.
[17] المصدر نفسه، الصفحة 95.
[18] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 105.
[19] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 55.

"ديوان بين المجرة والسنابل" للشاعر: ريمون عازار

أُلقيت في الحركة الثقافية – انطلياس
20/11/2009

ديوان "بين المجرة والسنابل" ينتمي إلى شعر المناسبات، وخلافًا للشائع المتداول، أرى أن لشعر المناسبات قيمة كبرى، شرط أن يحسن الشاعر اختيار المناسبة المؤاتية، إذ أن للاختيار بحد ذاته دلالة اجتماعية، ووجدانية، وفكرية، فشتّان بين اختيار الشاعر مناسبة مأدبةٍ يقول فيها شعر طعام ومناسبةَ صدورِ ديوانِ شعر قيِّم يبدي فيه رأيه ويحدّد منه موقفه المؤتلف معه أو المختلف، وكما أن لاختيار المناسبة دلالة فكذلك للمعالجة دلالة، فإذا تمكّن الشاعر من استنطاق المناسبة واستبطانها تخطاها وبذلك جاوز العارض الطارئ إلى الباقي الدائم، فكانت في شعره عِبرة تدوم وتستفيد وتفيد. قل لي أي مناسبة تختار أقل لك من أنت، وأَظْهر لي طريقة معالجتك أقل لك ما إذا كانت قصائدك ستطوى مع المناسبة أو سـتـنقلها من العابر إلى الدائم ومن الطارف إلى التالد ومن الكلام إلى التجربة، ومن الحدث إلى الفن.
وننظر في المناسبات التي اختارها الشاعر الأستاذ ريمون عازار فإذا هي مناسبات جليلة ذات قيمة بذاتها ولذاتها، فليس من مألوف العادة أن نتذكر الدكتور ألبير مخيبر، والشاعر ايليا ابو شديد، والشاعر جورج غانم، والمحامي جوزيف باسيلا، والرئيس رفيق الحريري، والشهداء، والفنان عاصي الرحباني، والمحامي عبد الله القبرصي، والأستاذ كرم ملحم كرم، والفنان منصور الرحباني، والمحامي موسى تامر، والسيّد ادمون تامر، وتوجيه تحية إلى الرئيس اميل لحود، والقاضي جوني القزي، وتكريم الشاعر رياض المعلوف، والأب صبحي حموي، وتحية إلى القاضي غالب غانم، والمحامي فارس الزغبي، والاحتفال بيوبيل مدرسة الحكمة، وتكريم الشاعر منيف موسى.
وأبدأ من حيث بدأ الشاعر، بذكرى الدكتور ألبير مخيبر، وقد خاطب الدكتور مخيبر كأنه ماثل أمامه، بل كأنه حي، وهو كذلك في وجدان عارفيه ومحبيه من الذين يعتبرون التراث استمرارًا ودوامًا يُستذكران، لا أحوالًا تمضي ويطويها النسيان ويطوي الناسين معها، قال الشاعر مخاطبًا الدكتور مخيبر:

بالفقرِ تُغني، بالمحبة تغتني
وغناهُمُ مالٌ تكدس في الجيوبِ

لم تسأل الساعي إليك مؤملًا
أمن البقاع أم الشمال أم الجنوبِ
فالأرض واحدة، وشعبك واحد
وعليه تمطر مزنة الخير السكوبِ

إلاّ لأجله ما اتخذت مناسكًا
آمنتَ أن الله يعبد في الشعوبِ[1] .
قلت ان المناسبة هي ذكرى غياب الدكتور ألبير مخيبر، ولا شك في أن الدكتور مخيبر مثّل وما يزال يُمثّل للذين لا ينسَون الرجال المنارات في أوطانهم قيمًا جلّى، لَحَظ منها الشاعر انعدام المصلحية والاثرة، وايثار الفقر على جني المال، ووحدة الأرض ورفض المناطقية والتجزئة، والسعيَ إلى الخير وسيادة الشعب، وان الايمان الحق يعني تجسُّد الدين في الشعوب، وهذه القيم تُذكِّر بفضائل الدكتور مخيبر وبما اختاره الشاعر منها أي بما يمثل عقيدته هو وبما يريد أن ينقله منها إلى المتعظين الآملين في استرجاع القيم وخلودها وتخلديها والارتقاء إليها بالتذكير والتفكير والتبصر والوعي.
وأنتقل إلى محور الصداقة والشاعر ريمون عازار صديق صادق، والأحباب الذين تذكر خُلَّص أوفياء ما شابت محبتهم شائبة، وزان ودَّهم صفوٌ دائم، ومنهم الشاعر ايليا ابو شديد، واياه يخاطب:

قيل الصداقة، قلنا أنت سيدها
وقيل في النبل: فيك النبل يُختتمُ

يا راسخ الرأي لا تُخفى مقاصدُهُ
يا ثورة الحق لا تنفك تَقتحمُ...

أخي، ذكرتك، كم عانيت من ألم
وكم تمزّقت والأحداث تحتدمُ[2] .
وهذه الصفات، الصدق في الصداقة، والنبل في التعامل، والثبات في الرأي، والجُرأة في الثورة، والمعاناة والتمزّق، على أهميتها ركنًا ساميًا في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، يشفعها تدفق من شاعرية سمتها الايمان، والفن روعتها، والأرض والإنسان يجمعهما الحب ويرعاهما الخلود:
قالوا مضيت! فأهل الأرض ما خَلَدوا
قلت الخلودُ بما خطوا وما نظموا

يمضي الزمان ويبقى في ملاعبه
من ساحهُ الشعر، أو من ساحُه القلمُ[3].

والصديق بالصديق يُذكِّر كما المحبة تستدعي المحبة، والقلوب المتآلفة يَنبوع خير وارتقاء، هكذا تطل صورة صديق آخر هو الحبيب جورج غانم، وكان واسطة الخير والتعارف بيني وبين ريمون عازار، قال مناجيًا إياه:
كنا الأخوة تصفو في تواصلنا
كخمرة عتقت ما شابها زغلُ

إن مسك الجرح مرّ السيف في كبدي
وإن فرحت فقلبي الطائر الجذلُ...

توحد الرأي حتى قيل أيُّهما
كأن عن واحد لا عنهما سألوا[4].

فيا طيبها أخوة صفوها صفو، وجرحها واحد، وكذا فرحها، والرأيان رأي واستمرارها بعد الرحيل موكب خلود سبقه ما قيل من شعر قبل الفراق وما تلاه من شعر عقب الموت المخلِّد:
ما فرق الموت، نحن الموت نسقطه
الشعر أقوى به نحيا ونتصلُ
من الثريا انطلقنا أنجمًا سطعت
في كل أفق ففاض الحب والغزلُ[5].
وأصل إلى محور الوطن، ولا أقف طويلًا عند الوطنية، فهي في عقيدتي من المسلمات، بل من الايمانية، تحب وطنك أساء أم أحسن إليك، وتنتشي به أفي النور أم في الظلمة، في الري أم في الجفاف، في الحفر أم في المسالك والمعابر، حب الوطن إيمان مطلق لا يقبل الشرك والشك والزوغان. آمنت بالله، آمنت بلبنان وبرسالة لبنان وبلبنان الرسالة، ورسالة لبنان ثقافة وفن، وفي ذكرى جوزيف باسيلا قال الأستاذ الشاعر ريمون عازار:
قل للثقافة، ما لبنان منغلق
والمقفلون ثغور النور ما ولدوا
هنا اللغات، ومذ كنا نجسدها
نُغني ونُغنى، فما للنور معتقدُ
الضاد نحن، لها لبنان معتصم
ودون لبنان لا ضاد ولا عَضَدُ[6].
ورسالة لبنان غير قاصرة على صون العربية، فتطول الفن مع الرحابنة:

لا يسبرُ الكونَ إلا ومضُ أغنية
والخَلق، لا المال، يعلو زرقة النجمِ[7].

ورسالة لبنان شمولية في الأدب والفن والخطابة والقانون والحرب:
في الشعر، في النثر، في العلياء منبرهم
في الفن، في الحكم، في الأخطار تُقتحمُ[8].

وتبقى رسالة لبنان، تجاه لبنان، وهي رسالة الشاعر في شعره، والمؤمن في إيمانه، والمحب في محبته، والمزارع في زراعته، والصانع في صناعته، والحر وان في معتقله، وقد أطلقها الشاعر في يوبيل مدرسة الحكمة بصائب حكمته، فقال:

أعطيتـنا الله، ما عدنا لطائفة
لا للمذاهب، فالإنسانُ يحترمُ
من ذا يفرق، فالأديان واحدة
انا جميعًا "بحبل الله نعتصمُ"
هَدْيُ الكنائس والخَلوات في دمنا
مثل المساجد يدعونا فننسجمُ
لبنان يجمعنا والكون ملعبنا
كل الطوائف في أفلاكه نجمُ[9] .

[1] ريمون عازار، بين المجرّة والسنابل، جونية، دار نعمان للثقافة، 2009، الصفحة. 20.
[2] ريمون عازار، بين المجرّة والسنابل، الصفحة 28.
[3] ريمون عازار، بين المجرّة والسنابل، الصفحة 31.
[4] ريمون عازار، بين المجرّة والسنابل، الصفحة 33.
[5] ريمون عازار، بين المجرّة والسنابل، الصفحتان 33 – 34.
[6] ريمون عازار، بين المجرّة والسنابل، الصفحة 6.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 56.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 123.
[9] ريمون عازار، بين المجرّة والسنابل، الصفحتان 124-125.

تجربة ميخائيل نعيمه الشعرية في ديوان "همس الجفون"



ألقيت في بسكنتا
17-10-2009



ديوان "همس الجفون" حكاية قلب، وتأملات فكر، وتجربة إيمان، وموقف من المجتمع. وأبدأ بقصيدته الأولى تاريخيًّا، وهي قصيدة "النهر المتجمد"، وقد نظمها ميخائيل نعيمه بالروسية في عام 1910 يوم كان طالبًا في سِمنار پولتاڤا ثم ترجمها بنفسه إلى العربية في عام 1917 بعد تخرّجه من جامعة واشنطن في مدينة سياتـل.
وإذا أمعنّا في الأبيات التي يقابل فيها الشاعر بين قلبه والنهر استنتجنا أنه مرّ بمرحلتين: أولى كان فيها فرحَ القلب، طلقَ الآمال، وثانية صار فيها سئمًا لا يُشارك بائسًا في بؤسه ولا فرحًا في فرحه، قال مخاطبًا النهر:
"قد كان لي، يا نهر، قلب ضاحك مثـل المروجْ
حر كقلبك فيه أهواء وآمال تموجْ
قد كان يضحي غير ما يمسي ولا يشكو المللْ
واليوم قد جمدت كوجهك فيه أمواج الأملْ...
نبذته ضوضاء الحياة فمال عنها وانفردْ
وغدا جمادًا لا يحن ولا يميل إلى أحد"[1].
وألِفـْتُ إلى حالة القلب الأولى الضاحكة الحرّة، وإلى حالته الثانية وقد جمَد بل غدا جمادًا لا يحن ولا يميل...، ويلوح لي أن للقصيدة ظاهرًا هو بلد ونهر، وباطنـًا هو قلب سال عاطفة وتدفق ثم تجمد ولا رجاء له بانطلاق واندفاق، فهذه قصيدة "القلب المتجمد" قلب الشاعر ميخائيل نعيمه الشاب إذ كان في التاسعة والعشرين من العمر.
وأرى أن الترجمة العربية مهمة بالنسبة إلى الناظر في تجربة نعيمه العاطفية لأنه في نهاية الترجمة العربية يشير إلى قلبه عوضًا من مخاطبته روسيا كما فعل في القصيدة المنظومة بالروسية، وإشارته إلى قلبه تنم على حالة يأس، في حين تعبّر مخاطبته روسيا عن نزعة تفاؤل. روسيا مكبلة وسوف تفك قيودها، وقلب نعيمه مقيّد ولن يُفك له عِقال، قال مخاطبًا نهر "صولا" المتجمد وذاكرًا قلبَه:
"يا نهر ذا قلبي، أراه، كما أراك، مكبلا
والفرق أنك سوف تنشط من عِقالك، وهو... لا"[2].
إذًا، روسيا مكبلة، ونهر "صولا" متجمّد ولكنهما سيتحرران ويجريان، أما قلب الشاعر فمقيد راكد وسيظل كذلك.
وتلت تجربةَ القلب تجربةُ الفكر، فبعدما أسكت نعيمه خلجات قلبه أو كف قلبُه نفسه عن المشاعر، توثب الفكر هاديًا ومرشدًا، وعبّر نعيمه عن ذلك بقوله:
"فقلت لفكرتي اتقدي
وقلت لنفسي اتئدي
فنور الفكر يهدينا
إذا ما قلبُنا جمدا
ونورًا فيه لم نجدِ"[3].
ويظهر أن تعويل نعيمه على فكره هو موقف إرادي، اختاره عن قرار واقتناع، قال في الصدد هذا:
"جعلت الفكر حاميها
لأن الفكر بانيها
ولم أترك لقلب كان
ميتًا بين أضلاعي
ولا مقصورة فيها"[4].
واعمل نعيمه فكره في الدنيا سعيًا إلى جلاء أسرارها وكشف بواطنها وفهم ظواهرها فهمًا أعمق:
"ورحت أجوب ما استترا
من الدنيا وما ظهرا...
فأطرح كل ما حادا
عن المقياس أو زادا...

ورحت أقيس أيامي
وأعمالي وأحلامي
وما حولي ومن حولي
وما تحتي وما فوقي
بأفكاري وأوهامي...

كذا قسنا ليالينا
وحاضرنا وماضينا
أنا والفكر، يا قلبي
لقد شدنا علالينا"[5].
ونلحظ أن نعيمه يشدد على المقاييس بقوله: اقيس – المقياس – قسنا، ويشدد على دور الفكر بقوله: نور الفكر – بأفكاري – أنا والفكر، وكذلك يفعل في أبيات أخرى... إلاّ أننا نومئ إلى ربطه الأفكار بالأوهام حين قال: بأفكاري وأوهامي كما خاطب قلبه بحنو: أنا والفكر، يا قلبي، وفي هذين إيذان بشكه في قدرة الفكر على بلوغ اليقين وانعطاف على القلب بعد انعطاف عنه، وما عبّرعنه نعيمه خِفرًا في الأبيات السابقة، سفر عنه جهرًا في أبيات لاحقة، قال:
" ففي داخلي ضدان: قلب مسلِّم
وفكر عنيد بالتساؤل أضناني
توهم أن الكون سرٌّ وأنه
يُنال ببحث أو يُـباح ببرهانِ
فراح يجوب الأرض والجو والسما
يسائل عن قاص ويبحث عن دانِ
وكنت قصيدًا قبل ذلك كاملًا
فضعضع ما بي من معانٍ وأوزانِ"[6].
قلب جمد، وفكر همد، وهل يمكن إنسانًا شاعرًا شابًّا له رهافة ميخائيل وثقافة ميخائيل، وقد بلغ من العمر الثالثة والثلاثين، أن يجود بالأدب بل أن يُوجَد في الدنيا جافَّ القلب مكبوت الفكر، والمرء بأكبريه قلبه وفكره؟ فالقلب الذي حسبه نعيمه ميتـًا نبض، والفكر الذي ظنه تهاوى نهض، إلا أنهما اتخذا دورين اختلفا عما سبق. إن القلب موطن الأشواق بل هو نبضة الخالق في المخلوق، والفكر ليس قياسًا وبرهانـًا بل ليس عقلًا يجرد من المادة قوانين المحسوسات، إنه إشعاعُ وحي ينزل من المفكر الأعظم ليسعف الإنسان على تفسير معاني أشواق النفس ورموز الكائنات.
والقلب هذا ليس وليد عصره، فمشاعره ترقى إلى عصور سابقة تطول الأزل وتمتد إلى عصور لاحقة تبلغ الأبد:
"فهاتي يدًا، وهاك يدي
على رغد، على نكدِ
وقولي للأولى جهلوا
معًا كنا من الأزلِ
معًا نبقى إلى الأبدِ"[7].
والأزلي هو الله والأبدي هو الله، والإنسان صورة رسمها خيال الله قبل أن تتجسّد إنسانًا:
"أنا السر الذي استترا
بروحكِ منذ ما خطرا
ببال الكائن الأعلى
خيالُ العالَم الأدنى
فصور من ثرى بشرا"[8].
ولكون أشواق القلب من مصدر إلهي فإن لها الحكم، إنها التابع والفكر هو مفسّر معانيها:
"اقلبي احكم ولا ترهب
فما لي منك من مهرب
فأنت اليوم سلطاني
وأنت اليوم رباني
أدرني كيفما ترغب...
أفاق القلب، وا طربي
أفاق القلب، وا حربي
فنم يا فكر، أو فاخضع
لقلب كان من حجر
فصار اليوم من لهبِ"[9].
وبذلك بلغ نعيمه المرحلة الثالثة في تجربته الشعرية: قلب يشعر ذو أشواق لا تعرف حدًّا، وفكر في خدمة القلب يفسر معنى أشواقه ويبين أهداف اختلاجاتها، فإيمان بأن الإنسان ليس عرضًا في الكون طارئًا، بل هو كيان براه الله من روحه، وبما أن الخليقة هي صورة الخالق فإن روح الإنسان شأن روح الله باريها أزلية أبدية:
"ايه نفسي! أنتِ لحن فيّ قد رنّ صداه
وقعتكِ يدُ فنانِ خفي لا أراه
أنت ريح ونسيم، أنت موج، أنت بحر،
أنت برق، أنت رعد، أنت ليل، أنت فجر
أنت فيض من إله"[10].
ويثنّي:
"أخالقي رحماكا بما برت يداكا!
إن لم أكن صداكا فصوت من أنا؟...
فابدل لظى نيراني بجمرة الإيمانِ
واجعل من الحنانِ للقلب مرهما
إذ ذاك بالتهليلِ أسير في سبيلي
وخالقي دليلي، ووجهتي السما!"[11].
ويعلق نعيمه نفسه على هذه الأبيات قائلًا:
"... فحينـًا أسأل نفسي: "من أنت يا نفسي؟" فأراها في كل شيء وأرى كل شيء فيها. وأنتهي إلى أنها والله واحد، ولكنني لا أجرؤ أن أجاهر بذلك. فأكتفي بالقول إن نفسي "جزء من إله" أو "فيض من إله"[12].
ومن يعتقد أن نفْسه قبس من نور الله، وأنها والله واحد، يسعَ إلى إدراك ما بثـّه الله في نفسه ان هو عكف عليها يستنطقها ويسألها أو يسائلها، إذًا، ليس الإنسان معزولًا في الكون، واكبابه على نفسه هو كشف لدني، بل ان سرّ الخالق كامن في خليقته، وللإنسان أن ينظر في نفسه أولًا:
"الناس في أسرارها حائرون
والسر، لو يدرون، فيهم مقيم"[13].
"... لكنني مصغ لنفسي، ففي
نفسي أوتار وفيها نشيد..."[14].
"وسنبقى نفحص الآثار من هذا وذاكْ
ريثما ندرك أن الدرب فينا لا هناكْ"[15].
إذًا، ثمة اتجاه أول إلى داخل الإنسان ليكتشف في النفس ما انطوى عليه كيانه من نزوع إلهي، واتجاه ثان إلى الكائنات كلها ليرى الله فيها:
"كحل اللهم عيني
بشعاع من ضياكْ
كي تراكْ
في جميع الخلق...
وافتح اللهم اذني
كي تعي دومًا نداكْ
من علاكْ
في ثغاء الشاة، في زأر الأسود...
في خرير الماء، في قصف الرعود
في هدير البحر، في زحف الغمام...
في بكا الأطفال، في ضحك الكهول
في ابتهالات العراة الجائعين...
في صلاة الملك والعبد السجين"[16].
الله، إذًا، كامن في الإنسان الذي يحسب أنه جرم صغير وفيه انطوى العالم الأكبر، وحالٌّ في الكون الذي يخاله الإنسان مادة متعددة الأشكال والألوان:
"مظاهرها في الكون تبدو لناظر
كثيرة أشكال عديدة ألوانِ
واقنومها باق من البدء واحدًا
تجلت بشهب أم تجلت بديدانِ"[17].
فحيث الخليقة يكون الخالق، فالكون بما فيه ومن فيه تواجُدٌ وليس وجودًا فحسب، ومن أدرك هذه الحقيقة صار الله محورَ حياته بل هو حياته ومحجته، منك وا وإليك وا، أسعى إليك عبر الثنائيات من خير وشر إلى خير أحد إذ أن الله خير محض، وعبر المحبة والكراهية إلى المحبة الصرف إذ أن الله محبة خالصة، وعبر الصدق والكذب إلى الصدق الصراح والحق والحياة والموت:
"وليكن لي يا إلهي
من لساني شاهدان
صادقان
إن أفه بالحق فليشهد معي
أو أفه بالبطل فليشهد علي...
واجعل اللهم قلبي
واحة تسقي القريبْ
والغريبْ
ماؤها الايمان، أما غرسُها
فالرجا والحب والصبر الطويل
جوها الاخلاص، أما شمسها
فالوفا والصدق والحلم الجميل"[18].
ومن عرف محجته سار إليها آمنًا مطمئنًّا، مغلبًا في ثنائية الخير والشر المرحلية أحديةَ الخير السرمدي، ناظرًا من خلال التشاؤم والتفاؤل المثنويين إلى التفاؤل الأحدي، ومن خلال الموت إلى دوام الحياة، فالله حاديه، وصوت الله فيه يناديه:
"إذا سماؤك يومًا تحجبت بالغيوم
اغمض جفونك تبصر خلف الغيوم نجوم...
وعندما الموت يدنو واللحد يفغر فاه
اغمض جفونك تبصر في اللحد مهد الحياه"[19].
ومن يتخطَّ الثنائية صراعًا، ويرْنُ إلى الاحدية حلًا، فالأرض واحدة، والبشرية واحدة، والكون واحد، والله واحد وهو المحجة، يشعر بالطمأنينة وهي حالة روحية مستقرة فوق الصراع، ومن قصد مجد الله هانت لديه أمجاد الدنيا:
"سقف بيتي حديد ركني بيتي حجر...
باب قلبي حصين من صنوف الكدر...
وحليفي القضاء ورفيقي القدر..."[20].
وذلك لأن القضاء العادل لا يحكم إلا بما قضاه الإنسان لنفسه، والقدر لا يفرض إلا ما قدره الإنسان لنفسه، فكما يزرع الإنسان يحصد، وكما يُغني يغنى له:
"يا روح غني ولا تنوحي
فالعمر لحن إذ تسمعينه
تعين منه ما تنشدينه
والعيش حقل تستثمرينه
يعطيكِ مما تستودعينه"[21].
ونصل إلى المنحى الرابع من تجربة نعيمه، ويتعلق بموقفه من المجتمع، فالساعي إلى مجد الله يزهد في أمجاد الدنيا، فهي تبعده عن هدفه، وتستلب إرادته، وتقيده بتقاليد المجتمع، وتنأى به عن ربه، فعليه أن يتحرر منها:
"غدًا أرد هبات الناس للناسِ
وعن غناهم استغني بإفلاسي
وأسترد رهونا لي بذمتهم
فقد رهنت لهم فكري وإحساسي...
وألبس العري درعًا لا تحطمه
أيدي الملائك أو أيدي الشياطين
فلا تروعني نار الجحيم ولا
مجالس الحُور في الفردوس تغريني..."[22].
انصراف كلي إلى الله، ثواب يطمئن، وعقاب يعلِّم، وطاعة عالمة، وعود إلى الله وخلاص:
"قل اطعنا في كل ما قد فعلنا
صوت داع إلى الوجود دعانا
فجنينا من الحياة ولكن
قد أعدنا إلى الحياة جنانا...
ومضينا ولا ندامة فينا
وتركنا كؤوسنا لسوانا..."[23].من تجربة القلب، إلى تجربة الفكر، إلى تجربة الإيمان وما يصحبها من زهد وتطلعات، إلى موقف رافض للبنى الاجتماعية المخالفة لمشيئة الله ونظامه القائم على المحبة وان الانسان أعلى قيمة إلهية على الأرض وأرقى قبس روحاني من السماء، فلا يثمن بمال، ولا يذل ولا يستذل، مصدره الله ومآبه الله وهويته أن يعرف إرادة الله.




[1] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 12 – 13.
[2] ميخائيل نعيمه، همس الجفون ، ص 13.
[3] المصدر نفسه، ص 59.
[4] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 61.
[5] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 59 – 60.
[6] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 84 – 85.
[7] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 107.
[8] المصدر نفسه، ص 102.
[9] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 62.
[10] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 21.
[11] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 54
[12] ميخائيل نعيمه، سبعون، ص 438.
[13] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 27.
[14] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 31.
[15] المصدر نفسه، ص 46.
[16] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 35 – 36 – 37.
[17] المصدر نفسه، ص 86.
[18] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 37 - 38 .
[19] المصدر نفسه ، ص 9.
[20] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 73-74.
[21] المصدر نفسه، ص 67.
[22] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 108 – 109.
[23] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 79.

ماذا يبقى اليوم من فكر ميخائيل نعيمه؟


ألقيت في بكفيا
9-9-2009


الموضوع لم أختره أنا، اختاره أخي الأستاذ ميشال معيكي، وفي الحقيقة طاوعته، وحتى اللحظة الأخيرة أي صباح اليوم كنّا نتداول هاتفيًّا فيما يتعلّق بالموضوع.
إذ أردت أن أنطلق من تجربتي الشخصية، سأدلي بحكمي مباشرةً قبل أي تحليل أو قبل الخوض في أي أسباب.
بالنسبة إليّ ميخائيل نعيمه باقٍ كلّه كان وما يزال وما دمت أنا باقيًا سوف يبقى. هذا مبدأ عام، يقولون لي في الجامعات التي أدرّس فيها إنّك متأثّر جدًّا في نعيمه وأجيب "قدّيش حلوه لو كنت مَنّي مأثّر". بالحقيقة أنا متأثّر والذين يعرفون مكتبي وكيف أعمل يعرفون أنّ في الرفّ الأعلى من مكتبتي رسم نعيمه أتصبّح وأمسّيه قبل أن أنام هذا بالنسبة إلى موقفي الشخصي، إلاّ أنّني كرجلٍ يميل الى الموضوعية، أردت أن أعالج هذا الموضوع بطريقة موضوعية. سأنطلق أولًا من ولادة نعيمه منذ مئة وإحدى وعشرين عامًا ووفاة نعيمه منذ إحدى وعشرين سنة، أعتقد أنّنا إذا عدنا الى تاريخ ولادة نعيمه وبدأنا نرصد ما بقي منه منذ تلك الفترة حتى اليوم أوغلنا في زمنٍ مديد لا يحقّ لنا أن نخوض به.
أما إذا انطلقنا من تاريخ وفاة ميخائيل نعيمه حتى اليوم أي منذ قرابة واحد وعشرين عامًا فإنّ المسافة قصيرة جدًّا، لذا آثرت أن ألجأ الى بعض الإحصاءات التي تدلّ إذا كان نعيمه ما تزال كتبه رائجة بين الناس أو إذا انحسر بعضها أو إذا انتشر بعضها أكثر من ذي قبل. أمّا بالنسبة إليّ أنّ نعيمه كلّه باقٍ، أمّا ماذا يبقى من نعيمه فعلينا أن نسأل السؤال بشكلٍ آخر.
على ماذا أبقينا ميخائيل نعيمه، نعيمه أدبه موجود، حضوره الروحي موجود، في الجامعات موجود، في الندوات موجود، وما هذه الندوة التي نقيمها اليوم إلاّ دليل على ذلك. نلاحظ السؤال الذي يجب أن يُطرح، ماذا أبقينا من ميخائيل نعيمه، بعد دخوله في تاريخ الأدب وبعد حضوره ضمن الأجيال والمدارس والتراث الشعبي ودوائر المعارف والمطالعة؟
عدت الى الإحصاءات الأخيرة، وأعتذر عن تسمية أي دار نشر كي لا أنتقد أو أبشّر. الإحصاءات المتوافرة لديّ تدلّ على أنّ معظم مؤلّفات نعيمه يُعاد طبعها بطريقة مستمرة وأقف عند القدر الأكبر من الطباعات.


إسم الكتاب
عدد الطباعات
الطبعة الأخيرة
كان ما كان
لقاء
مذكّرات الأرقش
أكابر
اليوم الأخير
21
14
11
17
10
2009
2006
2006
2008
2005

في طليعة الطباعات كتاب كان ما كان ووصل الى الطبعة الحادية والعشرين في العام 2009. كتاب لقاء أُعيد طبعه أربعة عشرة مرة حتى العام 2006. مذكّرات الأرقش أُعيد طبعه إحدى عشرة مرة. كتاب أكابر أُعيد طبعه سبعة عشرة مرة حتى العام 2008. اليوم الأخير أُعيد طبعه عشرة مرات حتى 2005.
نلاحظ ضمن روايات نعيمه الحد الأدنى عشر طبعات اليوم الأخير والحد الأقصى 21 طبعة هي مجموعة كان ما كان، ممّا يدلّ على أنّ حضور نعيمه إحصائيًّا استنادًا الى الطبعات الأخيرة من 2006 حتى 2009 موجود.
الآن لا أستطيع أن أُدلي بأيّ إحصاءات بالنسبة الى عدد النسخ المطبوعة لكل طبعة. نحن نعرف أن دُور النشر لا تعلن الأعداد الصحيحة عن المنشورات، لأنّ الأعداد الصحيحة تقتضي إتاوات مضافة للمؤلّفين ونحن نعرف أنّ المؤلّفين لا يقتضون عادةً ما يجب أن يقتضوه من دُور النشر.
الآن أعطيت الفكرة الأعلى بالنسبة الى حضور نعيمه وما يبقى من رواياته.
النسبة المتدنية تتناول الروايات التي تعود الى العام 1988، نلاحظ كرم على درب الطبعة التاسعة 1989، أيوب الطبعة الثالثة 1988، يا ابن آدم الطبعة الرابعة 1988، في الغربال الجديد الطبعة الرابعة 1988، من وحي المسيح الطبعة الثانية 1987، ومضات الطبعة الثالثة 1988.

إسم الكتاب
عدد الطباعات
الطبعة الأخيرة
كرم على درب
أيوب
يا ابن آدم
في الغربال الجديد
من وحي المسيح
ومضات
9
3
4
4
2
3
1989
1988
1988
1988
1987
1988

نلاحظ أن الكتب التي لا تُصنّف ضمن الروايات تأتي في أدنى درجات الشيوع بالنسبة الى مؤلّفات نعيمه.
ميخائيل نعيمه حاضر بقوة بالنسبة الى مؤلّفاته القصصية والروائية، أما بالنسبة الى الكتب التي تتناوب القضايا الفكرية العامة فهنالك انحسار في كتبه وفي عدد طبعاتها.
الأمر الآخر الذي يتعلّق بمقالات نعيمه، نعرف أنّ فكر نعيمه ومذهبه منتشر في عدد كبير من الكتب التي تحتوي على المقالات، إذا عدنا الى زاد المعاد الطبعة العاشرة 1994، في مهبّ الريح الطبعة التاسعة 2004، دروب الطبعة الحادية عشرة 2006، هوامش الطبعة السادسة 2005.
ما نستنتجه أيضًا هو زمن صدور الكتب، هناك كتب صدرت منذ فترات طويلة مثلًا، الآباء والبنون الطبعة الأولى نيويورك 1917، علينا أن نأخذ في الاعتبار هذا المدى الزمني الذي يتيح للكاتب إذا كان كتابه قد صدر منذ مرحلةٍ طويلة أن تتكرّر طبعاته الطبعة تلو الأخرى.
هذا بالنسبة الى كتب نعيمه، أقول ما تزال حاضرة وما تزال باقية القرّاء يُقبِلون عليها إلا أنّ بعض الكتب المهمّة تحتاج الى مزيد من التواصل بين دُور النشر من ناحية وبين الدوائر الثقافية من ناحية ثانية وبين المتلقين أعني جماعة القرّاء.
هذا بالنسبة الى الطبعات، طبعًا لا أريد أن أعمّم تجربتي على جميع الجامعات، لكنّ إحصاء دون تسمية أي جامعة كي لا أنتقد أو كي لا أبخّر.
أعرف من الرسائل التي تناولت أدب نعيمه إحداها تعلّقت بالعبرة في أقاصيص نعيمه، رسالة ثانية تناولت علاقة أدب نعيمه بالبيئة وهي دراسة ميدانية. دراسة ثالثة ما تزال قيد الإعداد وهي أطروحة دكتوراه صورة المرأة في أدب نعيمه، وهذه الأبحاث المنتسبة الى الماجيستير أو المنتسبة الى الدكتوراه صدرت من جامعة واحدة.
أنتقل الى جامعة ثانية، إذا عدنا الى أرشيفها نجد أن عددًا من رسائل الماجيستير تناول الوصف في رواية اليوم الأخير، الزمن في رواية اليوم الأخير ثم الأسلوب في رواية لقاء، الزمن في رواية لقاء. موضوع آخر الحياة والموت في أدب نعيمه، المكان في مذكّرات الأرقش، ثم الصوفيّة، بين الصوفيّة وجنبلاط والهند.
عدد رسائل الماجيستير يتجاوز الخمس وعدد أطاريح الدكتوراه يبلغ الثلاثة. إذًا نلاحظ أيضًا جامعيًّا حضور نعيمه في الأبحاث والدراسات الجامعية. بالنسبة الى الندوات لا أريد أن أذكر الندوات التي شاركت فيها شخصيًّا، ولكنّني أذكر ندوة أخيرة قمت بها مع الدكتور منيف موسى في جامعة الـAUST في 14/5/2009 وتناولت سيرة نعيمه وحياته من حيث علاقاتها بروسيا وأميركا ولبنان.
والآن إذا عدنا الى الكومبيوتر أو الحاسوب لا أريد أن أدخل في إسم أي برنامج لأنّني سوف أنتقد، نلاحظ أن التركيز في دراسات أدب نعيمه من ناحية عدد الطبعات الصادرة جاء بأنّ الروايات تحتلّ المرتبة الأولى وبالجامعات أيضًا، رأينا أنّ الروايات والمواضيع وما نسمّيه المونوغرافي Monographie يحتلّ أيضًا المرتبة الأولى.
أمّا بالنسبة الى الحاسوب نرى أنّ الشعر يحتل المرتبة الأولى، يركّزون عادة على نعيمه الشاعر وهذا ما يُفرِح القلب لسببٍ بسيط لأنّ بسطة حضور نعيمه تمتدّ من دُور النشر الى الدوائر الجامعيّة الى دوائر الحاسوب.
بالنسبة الى الحاسوب نحن ميّالون الى تقديس كلّ ما يقوله عِلمًا أنّني وجدت أخطاء فادحة يجب أن يتنبّه لها مَن يستعين بقضايا الحاسوب، مثلًا وُلِد نعيمه في صنّين، ونحن نعرف أنّه وُلِد في بسكنتا، الأمر الآخر "سياحات" أصبحت "سباحات" أو التأريخ الخاطئ بالنسبة الى سفر نعيمه الى أميركا أو عودته الى لبنان.
هذا أيضًا ما أشير إليه بالنسبة الى الطبعات المتداولة أنا أوثر الطبعات التي أشرف عليها الأستاذ نعيمه بنفسه على كثير من الطبعات الحديثة وخصوصًا في سيرته سبعون الملأى بأخطاء يندى لها الجبين. بالحقيقة هناك مئات الأخطاء ومقاطع طارت بكاملها في كتاب سبعون.
تبقى قضية حضور نعيمه في البرامج الرسمية، نحن نعرف أن نعيمه حاضر في البرامج الرسمية بالنسبة الى المقالة والقصيدة خصوصًا قصيدة أخي.
الأمر الآخر، هي المناسبات أشكر لميشال معيكي لأخذه المبادرة وأشكر أصدقاءنا في الـAUST الذين أخذوا المبادرة من قبل.
أقول لكم بأنّ نعيمه مضى على وفاته إحدى وعشرين سنة، يعني اثنان وأربعون لقاء بالنسبة الى ولادته ووفاته. نسأل الدوائر الثقافية المختصّة بالمناسبات أن تقول لنا كم ندوة أحيت بالنسبة لولادة نعيمه، وكم طاولة مستديرة أحييناها في ذكرى وفاته؟ أكاد أقول لا شيء تقريبًا. عِلمًا أن ولادة نعيمه كان يُحتفى بها أثناء وجود نعيمه كل عام في السابع عشر من تشرين الأول علمًا أنّني أشكّ أن يكون السابع عشر تاريخ ولادته، هو حدّد هذا التاريخ ونحن التزمنا به وما نزال ملتزمين به بعد وفاته، كما أنّنا نلتزم بذكرى وفاته بطريقة طقوسية وأعرف أنّه لم يكن يحبّ الطقوس والتقاليد والعادات، إلاّ أنّنا جرينا على هذا المبدأ. وآمل أن نحتفي بميلاد نعيمه كما كنّا نحتفل بوجوده بحضور الصحافيين والسفراء والمصوّرين ورجال الدين ليحيوا مثل هذا الأمر. لا أدري كيف اختفوا بعد ذلك حتى عن ذكرى الوفاة؟ فإذا كنّا غير مخلصين للأحياء فكيف بنا أن نكون مخلصين لموتانا؟ لأنّ مَن للموتى سوف يُخلِص له الأحياء فيما بعد.
أشكرك يا صديقي ميشال وآمل في العام المقبل بعد هذه الندوة الكريمة أن يكون حضور نعيمه أقوى من حضوره في هذا العام، علمًا بأنّه سيظل حاضرًا في تاريخ لبنان، فهو الذي دعانا الى توحيد الكرة الأرضية الصغيرة ثم دعانا الى اعتبار لبنان دولة الإنسان. ويُعتبر نعيمه من كبار الإنسانيين في لبنان ووطنيًّا في البلاد العربية وقوميًّا، وفي الإنسانية على مدى الكرة الأرضية وفي الألوهيّات وفي الميتافيزيات Métaphysique بسبب فكره العميق والرحب.

زقاق البلاط والحركة الثقافية

بيروت في 10–10-2009
سأتحدث عن زقاق البلاط من حيث كونُه مِنطَقة اقترن فيها العمران بالعلم، وحيًّا من أحياء بيروت عرفتُه منذ الفتوة، ومدرسةً أحببت وهي الكلية البطريركية.
وأتخيلني اليوم صبيًّا يقف في بداية الخمسينيات أمام تمثال يحتل زاوية من ساحة رياض الصلح هو تمثال نصفي للشيخ إبراهيم اليازجي، أقف أمام تمثال الشيخ إبراهيم اليازجي فرحًا لأن في لبنان من يقدر العلم وأهله، والنهضة وأركانها، وحزينًا لأن الأقذار تحيط بالتمثال وتغطي أرضه والروائح الكريهة تنبعث من خلفه وعن جانبيه، وكنت أتمنى نقل التمثال إلى مكان لائق أو إقامة حراس نظافة لا حراس أمن عليه، وكان غيري من ذوي الأمر والنهي يرون مثل رأيي الفتي، فقاموا بنقل التمثال من ساحة رياض الصلح إلى حديقة الأونسكو حيث ارتفع في مكان لائق.
وأصعد في طلعة الأميركان عن يميني السراي الكبير وعن يساري الكنيسة الانجيلية وخلفها مطبعة الاميركان، وأجتاز طريقًا ضيقًا وأبلغ المطبعة حيث كان يعمل نسيب لي، وأعكف على معجم البستان للعلامة عبدالله البستاني، وأمعن في قراءة مقدمته ومراجعة أبوابه، ويُهديني نسيبي نسخة من المعجم أعتذر حياءً عن قبولها، واليوم نادم أنا على الاعتذار.
وأتابع طريقي مجتازًا شارع أمين بيهم حتى أعلاه إلى محجتي. عن يساري كنيسة سيدة البشارة وأمامي ترتفع الكلية البطريركية وعند مدخلها تمثال نصفي للشاعر خليل مطران.
كنت في المرحلة التكميلية من دراستي، وأعرف أن الشيخ ناصيف اليازجي كان من أساتذة الكلية البطريركية، وبعده علـَّم فيها ابنُه الشيخ ابراهيم، وان خليل مطران كان من تلامذتها.
كنت معجبًا بأدب الشيخ ناصيف اليازجي، فأكببت على كتابه "مجمع البحرين"، أي مجمع الشعر والنثر، أنهل منه وأقتبس، وأجاري وأقلّد، خصوصًا أوابد المفردات وعويصها، وأعتبر ذلك إجادة وبراعة، إلى أن علّمني أساتذتي أن آخذ من أدب المعلم ناصيف اليازجي، ما فيه تجربة صادقة، وأصالة، وذوق فني جمالي، وحكمة عميقة، وانتماء إلى العصر ونهوض به ونهضة إليه. فتركت القديم للقديم والتقليد للمقلـّدين، وعكفت على جديده خصوصًا في الشعر، وكنت وما أزال أتغنّى بما غناه، وأترنم بما أطربه، وأشاركه في آلامه، وأتلقى الحكمة من حكمته، فمن إيمانه إيماني في قوله:
قم في الدجى يا أيها المتعبدُ
حتى متى فوق الأسرة ترقدُ
قم وادع مولاك الذي خلق الدجى
والصبح وامضِ فقد دعاك المسجدُ
واستغفر الله العظيم بذلة
واطلب رضاه فإنه لا يحقدُ...
يا رب أن أبعدتُ عنك فإن لي
طمعًا برحمتك التي لا تبعدُ...
من أي بحر غير بحرك نستقي
ولأي باب غير بابك نقصِدُ[1]
وأشهد أنني ما ترنمت بهذه الأبيات إلا فكرت في "قدموس: سعيد عقل، فبين صلاة مرى في "قدموس" وقصيدة ناصيف اليازجي صلة وقربى.
وعلمني أساتذتي النظر في معاناة ناصيف اليازجي الإنسان إذ أصيب بفالج نجم عنه شلل نصفي ذكره في شعره، قال:
تعمد الدهر لي سوءًا بليت به
والدهر ليس بناج عنده أحدُ
قد كان لي جسد قبلا أعيش به،
واليوم قد صار نصفًا ذلك الجسدُ
والحمدلله، شكوى الجسم هينة
ما دام يسلم منا العقل والرشدُ

وحادثة طريفة على الأقل بالنسبة إلي، فقد كانت جدتي تردد بعد وفاة ابنها وخالي جبران الأبيات التالية في الرثاء، تقول:
ذهب الحبيب! فيا حشاشتي ذوبي
أسفًا عليه، ويا دموع أجيبي...
يا أيها الأم الحزينة، اجملي
صبرًا، فإن الصبر خير طبيبِ
لا تخلعي ثوب الحداد، ولازمي
ندبًا عليه يليق بالمندوبِ
لم أكن أعرف عندما كانت جدتي ترثي خالي أن هذه الأبيات هي للشيخ ناصيف، وقد نظمها في رثاء ابنه حبيب، وهي آخر شعر له ولم يستطع إكمال قصيدته.
لا أريد أن أنهي كلمتي في الشيخ ناصيف بأنة حزن، إذ له في الوصف مطلع قصيدة يقول فيها:
هذِهْ عروس الزهر نقطها الندى
بالدر، فابتسمت ونادت معبدا
لما تفتق سترها عن رأسها،
عبث الحياءُ بخدها، فتوردا.. .
بلغ الأزاهر أن ورد جنانها
ملك الزهور، فقابلته سجّدا
فرنا الشقيق بأعين محمرة
غضبًا، وأبدى منه قلبًا أسودا.. .

وبين هذه القصيدة وقصيدة الأخطل الصغير "الصبا والجمال" نسب وقرابة.
وللشيخ ناصيف أرجوزة في الصرف عنوانها "الجمانة في شرح الخزانة"، وكنت أحفظها غيبًا أيام الفتوة، فأردّد:
الصرف علم بأصول تعرفُ
بها مباني كِلم تصرف
والأحرف التي اتبنت منها الكِلم
إلى صحيح وعليل تنقسِم
واحرف العلة واو وألف
والياء والباقي بصحة وصف
وادعُ من المعتل حرف لينٍ
ما قد جرى منه على السكونٍ...
وهذه الأرجوزة أفادت الفتى الذي كنتُه في علم الصرف، وأفادت الأب الذي صرتُه في اختيار اسم لابنته جمانة.
رحمك الله يا شيخ ناصيف، يا أبا ابراهيم ومن كان مثلك، وخلّف مثلك ما مات بل أمدّ الحياة بالحياة.
والشيخ ابراهيم اليازجي كان من أساتذة الكلية البطريركية، وبقي ظله يخيم على الكلية حتى أيام دراستي فيها، وكان الأحب إلى فتى ذلك الزمان الذي شب، وما يزال الأحب إلى شيخ هذا الزمان الذي شاب. وكنت أشدو بشعره الوطني طربًا:
تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركبُ...
فشمروا وانهضوا للام وابتدروا
من دهركم فرصة ضنت بها الحقبُ...
بالله يا قومنا هبوا لشأنكم
فكم تناديكم الأشعار والخُطبُ
ألستم من سطوا في الأرض وافتتحوا
شرقًا وغربًا وعزوا أينما ذهبوا

إلاّ أنني اطلعت في الكلية البطريركية على نثر الشيخ ابراهيم، وخصوصًا مقالاته العلمية ذات الأسلوب الموسيقي المشرق، وكان الشيخ ابراهيم يحب الموسيقى فبثها في جمله، ويحب الجمال فأشاعه في كتابته، ويهوى العلم فهذب عقول جيلي بعلمه وما أزال حتى اليوم أتذكر بل أذكر دهشتي عندما قرأت للمرّة الأولى مقالته في الأرض، وفيها يقول:
"إن دوران الأرض حول محورها قد ثبت بالاختبار وأيد بشهادة الحس.. وأما الدورة السنوية، وهي دورة الأرض حول الشمس، فلم ينتبه لها العلماء إلا بعد الدورة اليومية بزمن... أما سبب دوران الأرض حول الشمس فهو دوران الشمس على محورها، حين كانت الأرض جزءًا من محيطها، فلما انفصلت منها لبثت دائرة حولها.. إن لكلتا الدورتين سببًا واحدًا، وذلك... أن الأرض انفصلت عن الشمس بقوة قذفتها من محيطها إلى الفضاء..."، وكنت أذهل عندما أقرأ أن الأرض جزء من محيط الشمس، بل منها، وأنها انفصلت عنها بقوة قذفتها في الفضاء.
ونوع ثان من مقالاته كان يثيرنا بإيقاعاته ومنها وصفه القمر:
"... هو مثال الرونق والجمال، وآية الابهة والجلال... خلا إليه العاشق يتذكر وجه حبيبه... وأوى إليه المسهَّد، فكان سمير سهده، واتخذه المسافر رفيقًا فذهل به عن مخاوف سفره...".
أما لغة الجرائد ونقد الشيخ ابراهيم لها، واللغة والعصر وأخذه بها، وتبسيط أحرف اللغة العربية واختزالها من مئة حسب تعدد مواضعها، إلى ستين حرفًا فطواها النسيان، وطوى معها أن العلم تذكر والجهل نسيان.
ومن طلاب الكلية البطريركية الشاعرخليل مطران، وقد كرّمته الكلية بإقامة تمثال نصفي له عند مدخلها، وهذا التمثال هو أول من يستقبل الداخل وآخر من يودع الراحل، ويوم إزاحة الستار عن تمثال الخليل ألقى أستاذي الحبيب سلام فاخوري قصيدة قال فيها:
قم يا خليلَ الضاد كفكف دمعها
فالضاد تبكي العز في ابانهِ
ويحَ الأديبِ وويلَه في أمة
أربابها دأبوا على حرمانهِ
يحيا الأديب بموته وحياته
موت وواسطة إلى نسيانهِ
ما أنت أولَ شاعر أو عبقر
نصبوا له تمثاله بمكانهِ
إن المصيبة في بلادك انهم
أن يكرموا رجلًا ففي أكفانهِ
وكأنما الجلمود أسمى عندهم
قدْرًا ومنزلة على إنسانهِ
واسمحوا لي أن أقف وقفة عرفان ووفاء وإجلال لدى ذكرى استاذي سلام فاخوري، فقد كان شاعرًا مطبوعًا، وخطيبًا لامعًا، وسيدًا من أسياد المنابر، تتدفق لغته سيلًا من الفصاحة يجري جريان النفَس في الصدر، والدم في العروق والنبض في القلب، أستاذي في تاريخ الأدب العربي، وفنون الأدب الشعرية والنثرية، وفي البيان والعروض، أستاذي في المسرح، يؤلف المسرحية شعرًا ونثرًا، ومنها مسرحية "طفل وشاعر"، ويطلب مني أن أمثل فيها دور الشاعر، فيدربني على التمثيل والإلقاء، وأَنظُم القصيدة، وكنت فرخَ شاعر، فيقرأها ويصحّح ويسأل ويشجّع، وكنت أعرف أنه يتألّم من داء عضال وأعجب له يطلق النكتة صدّاحة أو يغضب محقًّا، أما عدوّه الأكبر والألد فالتعصب: يا أولاد إياكم والتعصب.
أما خليل مطران فكان مرشدي إليه الاستاذ فؤاد الباشا، بدأت معه بقصيدة المساء، وفي الصباح لم أسكت سكوت شهرذاد عن الكلام المباح، فمن قصيدة "المساء" إلى قصيدة "مقتل بزرجمهر" إلى قصيدة "الأسد الباكي" إلى قصيدة "وفاة عزيزين"، إلى قوله فيها ما رددتُه وما أزال:
الأمان! الأمان! ألقيت سيفي
وطويت اللواء تسليم راغمْ
خان عزمي الشباب، واقتص ضُعفي
من ثباتي، وكيف مثلي يقاومْ
إن من سيفه شباب نضير
فعيوب الشباب فيه مثالمْ
والذي درعه فؤاد رقيق
فجريح إن يُقتحم أو يُقاحمْ
ولا أنسى أستاذي في قواعد اللغة العربية فارس سعاده، وأستاذ الجميع في الإعراب ادوار الباشا، فما وقعنا في مشكلة اعرابية إلا لجأنا إليه فوجدنا حلها عنده، منه تعلمت الاعراب، وفي كتبه علمت، وامتدت علاقتي به حتى جاوز التسعين من العمر، وأذكر أستاذي بولس الخوري، وهو أول من هداني إلى الأدب الفرنسي ومدارسه الأدبية من كلاسيكية إلى رومنطيقية إلى رمزية، أطال الله عمره وزادنا بعلمه علمًا.
والنبراس المشع في مرحلة حياتي تلك كان الأب حنا الفاخوري، بتدريسه انتفعت وبكتبه تعلمت وعلمت وما أزال:
تاريخ الأدب العربي رافقته من الطبعة الأولى 1951، حتى طبعته الأخيرة: العشرين 2008، والموجز في الأدب العربي، والخلاصة في الأدب العربي، منارات مشعة لي ولأبناء جيلي لا تنطفئ ما دامت لي عينان ترنوان إلى دفقة نور.
زقاق البلاط، بل جادته الرحيبة الفيحاء، من الكلية البطريركية، إلى المدرسة الوطنية لمنشئها العظيم المعلم بطرس البستاني، إلى جامعة المقاصد، إلى المركز الألماني للأبحاث، إلى مكتبة لبنان، إلى جريدة "لسان الحال" لخليل سركيس، إلى قصر بشارة الخوري، إلى ليسيه عبد القادر، إلى منزل السيدة فيروز، إلى الكلية البطريركية بعهدها الجديد وقداماها المتحلقين حول رئيسها الجديد وباعث نهضتها المباركة الأب ميشال سبع، إلى كل من أسهم في نهضة زقاق البلاط الشكر والدعوة إلى مزيد من العمران والثقافة وإحياء التراث، فلبنان إنسان ورسالة وتراث.
[1] ناصيف اليازجي، مجمع البحرين، الصفحة 323.