vendredi 18 mars 2011

ماذا يبقى اليوم من فكر ميخائيل نعيمه؟


ألقيت في بكفيا
9-9-2009


الموضوع لم أختره أنا، اختاره أخي الأستاذ ميشال معيكي، وفي الحقيقة طاوعته، وحتى اللحظة الأخيرة أي صباح اليوم كنّا نتداول هاتفيًّا فيما يتعلّق بالموضوع.
إذ أردت أن أنطلق من تجربتي الشخصية، سأدلي بحكمي مباشرةً قبل أي تحليل أو قبل الخوض في أي أسباب.
بالنسبة إليّ ميخائيل نعيمه باقٍ كلّه كان وما يزال وما دمت أنا باقيًا سوف يبقى. هذا مبدأ عام، يقولون لي في الجامعات التي أدرّس فيها إنّك متأثّر جدًّا في نعيمه وأجيب "قدّيش حلوه لو كنت مَنّي مأثّر". بالحقيقة أنا متأثّر والذين يعرفون مكتبي وكيف أعمل يعرفون أنّ في الرفّ الأعلى من مكتبتي رسم نعيمه أتصبّح وأمسّيه قبل أن أنام هذا بالنسبة إلى موقفي الشخصي، إلاّ أنّني كرجلٍ يميل الى الموضوعية، أردت أن أعالج هذا الموضوع بطريقة موضوعية. سأنطلق أولًا من ولادة نعيمه منذ مئة وإحدى وعشرين عامًا ووفاة نعيمه منذ إحدى وعشرين سنة، أعتقد أنّنا إذا عدنا الى تاريخ ولادة نعيمه وبدأنا نرصد ما بقي منه منذ تلك الفترة حتى اليوم أوغلنا في زمنٍ مديد لا يحقّ لنا أن نخوض به.
أما إذا انطلقنا من تاريخ وفاة ميخائيل نعيمه حتى اليوم أي منذ قرابة واحد وعشرين عامًا فإنّ المسافة قصيرة جدًّا، لذا آثرت أن ألجأ الى بعض الإحصاءات التي تدلّ إذا كان نعيمه ما تزال كتبه رائجة بين الناس أو إذا انحسر بعضها أو إذا انتشر بعضها أكثر من ذي قبل. أمّا بالنسبة إليّ أنّ نعيمه كلّه باقٍ، أمّا ماذا يبقى من نعيمه فعلينا أن نسأل السؤال بشكلٍ آخر.
على ماذا أبقينا ميخائيل نعيمه، نعيمه أدبه موجود، حضوره الروحي موجود، في الجامعات موجود، في الندوات موجود، وما هذه الندوة التي نقيمها اليوم إلاّ دليل على ذلك. نلاحظ السؤال الذي يجب أن يُطرح، ماذا أبقينا من ميخائيل نعيمه، بعد دخوله في تاريخ الأدب وبعد حضوره ضمن الأجيال والمدارس والتراث الشعبي ودوائر المعارف والمطالعة؟
عدت الى الإحصاءات الأخيرة، وأعتذر عن تسمية أي دار نشر كي لا أنتقد أو أبشّر. الإحصاءات المتوافرة لديّ تدلّ على أنّ معظم مؤلّفات نعيمه يُعاد طبعها بطريقة مستمرة وأقف عند القدر الأكبر من الطباعات.


إسم الكتاب
عدد الطباعات
الطبعة الأخيرة
كان ما كان
لقاء
مذكّرات الأرقش
أكابر
اليوم الأخير
21
14
11
17
10
2009
2006
2006
2008
2005

في طليعة الطباعات كتاب كان ما كان ووصل الى الطبعة الحادية والعشرين في العام 2009. كتاب لقاء أُعيد طبعه أربعة عشرة مرة حتى العام 2006. مذكّرات الأرقش أُعيد طبعه إحدى عشرة مرة. كتاب أكابر أُعيد طبعه سبعة عشرة مرة حتى العام 2008. اليوم الأخير أُعيد طبعه عشرة مرات حتى 2005.
نلاحظ ضمن روايات نعيمه الحد الأدنى عشر طبعات اليوم الأخير والحد الأقصى 21 طبعة هي مجموعة كان ما كان، ممّا يدلّ على أنّ حضور نعيمه إحصائيًّا استنادًا الى الطبعات الأخيرة من 2006 حتى 2009 موجود.
الآن لا أستطيع أن أُدلي بأيّ إحصاءات بالنسبة الى عدد النسخ المطبوعة لكل طبعة. نحن نعرف أن دُور النشر لا تعلن الأعداد الصحيحة عن المنشورات، لأنّ الأعداد الصحيحة تقتضي إتاوات مضافة للمؤلّفين ونحن نعرف أنّ المؤلّفين لا يقتضون عادةً ما يجب أن يقتضوه من دُور النشر.
الآن أعطيت الفكرة الأعلى بالنسبة الى حضور نعيمه وما يبقى من رواياته.
النسبة المتدنية تتناول الروايات التي تعود الى العام 1988، نلاحظ كرم على درب الطبعة التاسعة 1989، أيوب الطبعة الثالثة 1988، يا ابن آدم الطبعة الرابعة 1988، في الغربال الجديد الطبعة الرابعة 1988، من وحي المسيح الطبعة الثانية 1987، ومضات الطبعة الثالثة 1988.

إسم الكتاب
عدد الطباعات
الطبعة الأخيرة
كرم على درب
أيوب
يا ابن آدم
في الغربال الجديد
من وحي المسيح
ومضات
9
3
4
4
2
3
1989
1988
1988
1988
1987
1988

نلاحظ أن الكتب التي لا تُصنّف ضمن الروايات تأتي في أدنى درجات الشيوع بالنسبة الى مؤلّفات نعيمه.
ميخائيل نعيمه حاضر بقوة بالنسبة الى مؤلّفاته القصصية والروائية، أما بالنسبة الى الكتب التي تتناوب القضايا الفكرية العامة فهنالك انحسار في كتبه وفي عدد طبعاتها.
الأمر الآخر الذي يتعلّق بمقالات نعيمه، نعرف أنّ فكر نعيمه ومذهبه منتشر في عدد كبير من الكتب التي تحتوي على المقالات، إذا عدنا الى زاد المعاد الطبعة العاشرة 1994، في مهبّ الريح الطبعة التاسعة 2004، دروب الطبعة الحادية عشرة 2006، هوامش الطبعة السادسة 2005.
ما نستنتجه أيضًا هو زمن صدور الكتب، هناك كتب صدرت منذ فترات طويلة مثلًا، الآباء والبنون الطبعة الأولى نيويورك 1917، علينا أن نأخذ في الاعتبار هذا المدى الزمني الذي يتيح للكاتب إذا كان كتابه قد صدر منذ مرحلةٍ طويلة أن تتكرّر طبعاته الطبعة تلو الأخرى.
هذا بالنسبة الى كتب نعيمه، أقول ما تزال حاضرة وما تزال باقية القرّاء يُقبِلون عليها إلا أنّ بعض الكتب المهمّة تحتاج الى مزيد من التواصل بين دُور النشر من ناحية وبين الدوائر الثقافية من ناحية ثانية وبين المتلقين أعني جماعة القرّاء.
هذا بالنسبة الى الطبعات، طبعًا لا أريد أن أعمّم تجربتي على جميع الجامعات، لكنّ إحصاء دون تسمية أي جامعة كي لا أنتقد أو كي لا أبخّر.
أعرف من الرسائل التي تناولت أدب نعيمه إحداها تعلّقت بالعبرة في أقاصيص نعيمه، رسالة ثانية تناولت علاقة أدب نعيمه بالبيئة وهي دراسة ميدانية. دراسة ثالثة ما تزال قيد الإعداد وهي أطروحة دكتوراه صورة المرأة في أدب نعيمه، وهذه الأبحاث المنتسبة الى الماجيستير أو المنتسبة الى الدكتوراه صدرت من جامعة واحدة.
أنتقل الى جامعة ثانية، إذا عدنا الى أرشيفها نجد أن عددًا من رسائل الماجيستير تناول الوصف في رواية اليوم الأخير، الزمن في رواية اليوم الأخير ثم الأسلوب في رواية لقاء، الزمن في رواية لقاء. موضوع آخر الحياة والموت في أدب نعيمه، المكان في مذكّرات الأرقش، ثم الصوفيّة، بين الصوفيّة وجنبلاط والهند.
عدد رسائل الماجيستير يتجاوز الخمس وعدد أطاريح الدكتوراه يبلغ الثلاثة. إذًا نلاحظ أيضًا جامعيًّا حضور نعيمه في الأبحاث والدراسات الجامعية. بالنسبة الى الندوات لا أريد أن أذكر الندوات التي شاركت فيها شخصيًّا، ولكنّني أذكر ندوة أخيرة قمت بها مع الدكتور منيف موسى في جامعة الـAUST في 14/5/2009 وتناولت سيرة نعيمه وحياته من حيث علاقاتها بروسيا وأميركا ولبنان.
والآن إذا عدنا الى الكومبيوتر أو الحاسوب لا أريد أن أدخل في إسم أي برنامج لأنّني سوف أنتقد، نلاحظ أن التركيز في دراسات أدب نعيمه من ناحية عدد الطبعات الصادرة جاء بأنّ الروايات تحتلّ المرتبة الأولى وبالجامعات أيضًا، رأينا أنّ الروايات والمواضيع وما نسمّيه المونوغرافي Monographie يحتلّ أيضًا المرتبة الأولى.
أمّا بالنسبة الى الحاسوب نرى أنّ الشعر يحتل المرتبة الأولى، يركّزون عادة على نعيمه الشاعر وهذا ما يُفرِح القلب لسببٍ بسيط لأنّ بسطة حضور نعيمه تمتدّ من دُور النشر الى الدوائر الجامعيّة الى دوائر الحاسوب.
بالنسبة الى الحاسوب نحن ميّالون الى تقديس كلّ ما يقوله عِلمًا أنّني وجدت أخطاء فادحة يجب أن يتنبّه لها مَن يستعين بقضايا الحاسوب، مثلًا وُلِد نعيمه في صنّين، ونحن نعرف أنّه وُلِد في بسكنتا، الأمر الآخر "سياحات" أصبحت "سباحات" أو التأريخ الخاطئ بالنسبة الى سفر نعيمه الى أميركا أو عودته الى لبنان.
هذا أيضًا ما أشير إليه بالنسبة الى الطبعات المتداولة أنا أوثر الطبعات التي أشرف عليها الأستاذ نعيمه بنفسه على كثير من الطبعات الحديثة وخصوصًا في سيرته سبعون الملأى بأخطاء يندى لها الجبين. بالحقيقة هناك مئات الأخطاء ومقاطع طارت بكاملها في كتاب سبعون.
تبقى قضية حضور نعيمه في البرامج الرسمية، نحن نعرف أن نعيمه حاضر في البرامج الرسمية بالنسبة الى المقالة والقصيدة خصوصًا قصيدة أخي.
الأمر الآخر، هي المناسبات أشكر لميشال معيكي لأخذه المبادرة وأشكر أصدقاءنا في الـAUST الذين أخذوا المبادرة من قبل.
أقول لكم بأنّ نعيمه مضى على وفاته إحدى وعشرين سنة، يعني اثنان وأربعون لقاء بالنسبة الى ولادته ووفاته. نسأل الدوائر الثقافية المختصّة بالمناسبات أن تقول لنا كم ندوة أحيت بالنسبة لولادة نعيمه، وكم طاولة مستديرة أحييناها في ذكرى وفاته؟ أكاد أقول لا شيء تقريبًا. عِلمًا أن ولادة نعيمه كان يُحتفى بها أثناء وجود نعيمه كل عام في السابع عشر من تشرين الأول علمًا أنّني أشكّ أن يكون السابع عشر تاريخ ولادته، هو حدّد هذا التاريخ ونحن التزمنا به وما نزال ملتزمين به بعد وفاته، كما أنّنا نلتزم بذكرى وفاته بطريقة طقوسية وأعرف أنّه لم يكن يحبّ الطقوس والتقاليد والعادات، إلاّ أنّنا جرينا على هذا المبدأ. وآمل أن نحتفي بميلاد نعيمه كما كنّا نحتفل بوجوده بحضور الصحافيين والسفراء والمصوّرين ورجال الدين ليحيوا مثل هذا الأمر. لا أدري كيف اختفوا بعد ذلك حتى عن ذكرى الوفاة؟ فإذا كنّا غير مخلصين للأحياء فكيف بنا أن نكون مخلصين لموتانا؟ لأنّ مَن للموتى سوف يُخلِص له الأحياء فيما بعد.
أشكرك يا صديقي ميشال وآمل في العام المقبل بعد هذه الندوة الكريمة أن يكون حضور نعيمه أقوى من حضوره في هذا العام، علمًا بأنّه سيظل حاضرًا في تاريخ لبنان، فهو الذي دعانا الى توحيد الكرة الأرضية الصغيرة ثم دعانا الى اعتبار لبنان دولة الإنسان. ويُعتبر نعيمه من كبار الإنسانيين في لبنان ووطنيًّا في البلاد العربية وقوميًّا، وفي الإنسانية على مدى الكرة الأرضية وفي الألوهيّات وفي الميتافيزيات Métaphysique بسبب فكره العميق والرحب.

زقاق البلاط والحركة الثقافية

بيروت في 10–10-2009
سأتحدث عن زقاق البلاط من حيث كونُه مِنطَقة اقترن فيها العمران بالعلم، وحيًّا من أحياء بيروت عرفتُه منذ الفتوة، ومدرسةً أحببت وهي الكلية البطريركية.
وأتخيلني اليوم صبيًّا يقف في بداية الخمسينيات أمام تمثال يحتل زاوية من ساحة رياض الصلح هو تمثال نصفي للشيخ إبراهيم اليازجي، أقف أمام تمثال الشيخ إبراهيم اليازجي فرحًا لأن في لبنان من يقدر العلم وأهله، والنهضة وأركانها، وحزينًا لأن الأقذار تحيط بالتمثال وتغطي أرضه والروائح الكريهة تنبعث من خلفه وعن جانبيه، وكنت أتمنى نقل التمثال إلى مكان لائق أو إقامة حراس نظافة لا حراس أمن عليه، وكان غيري من ذوي الأمر والنهي يرون مثل رأيي الفتي، فقاموا بنقل التمثال من ساحة رياض الصلح إلى حديقة الأونسكو حيث ارتفع في مكان لائق.
وأصعد في طلعة الأميركان عن يميني السراي الكبير وعن يساري الكنيسة الانجيلية وخلفها مطبعة الاميركان، وأجتاز طريقًا ضيقًا وأبلغ المطبعة حيث كان يعمل نسيب لي، وأعكف على معجم البستان للعلامة عبدالله البستاني، وأمعن في قراءة مقدمته ومراجعة أبوابه، ويُهديني نسيبي نسخة من المعجم أعتذر حياءً عن قبولها، واليوم نادم أنا على الاعتذار.
وأتابع طريقي مجتازًا شارع أمين بيهم حتى أعلاه إلى محجتي. عن يساري كنيسة سيدة البشارة وأمامي ترتفع الكلية البطريركية وعند مدخلها تمثال نصفي للشاعر خليل مطران.
كنت في المرحلة التكميلية من دراستي، وأعرف أن الشيخ ناصيف اليازجي كان من أساتذة الكلية البطريركية، وبعده علـَّم فيها ابنُه الشيخ ابراهيم، وان خليل مطران كان من تلامذتها.
كنت معجبًا بأدب الشيخ ناصيف اليازجي، فأكببت على كتابه "مجمع البحرين"، أي مجمع الشعر والنثر، أنهل منه وأقتبس، وأجاري وأقلّد، خصوصًا أوابد المفردات وعويصها، وأعتبر ذلك إجادة وبراعة، إلى أن علّمني أساتذتي أن آخذ من أدب المعلم ناصيف اليازجي، ما فيه تجربة صادقة، وأصالة، وذوق فني جمالي، وحكمة عميقة، وانتماء إلى العصر ونهوض به ونهضة إليه. فتركت القديم للقديم والتقليد للمقلـّدين، وعكفت على جديده خصوصًا في الشعر، وكنت وما أزال أتغنّى بما غناه، وأترنم بما أطربه، وأشاركه في آلامه، وأتلقى الحكمة من حكمته، فمن إيمانه إيماني في قوله:
قم في الدجى يا أيها المتعبدُ
حتى متى فوق الأسرة ترقدُ
قم وادع مولاك الذي خلق الدجى
والصبح وامضِ فقد دعاك المسجدُ
واستغفر الله العظيم بذلة
واطلب رضاه فإنه لا يحقدُ...
يا رب أن أبعدتُ عنك فإن لي
طمعًا برحمتك التي لا تبعدُ...
من أي بحر غير بحرك نستقي
ولأي باب غير بابك نقصِدُ[1]
وأشهد أنني ما ترنمت بهذه الأبيات إلا فكرت في "قدموس: سعيد عقل، فبين صلاة مرى في "قدموس" وقصيدة ناصيف اليازجي صلة وقربى.
وعلمني أساتذتي النظر في معاناة ناصيف اليازجي الإنسان إذ أصيب بفالج نجم عنه شلل نصفي ذكره في شعره، قال:
تعمد الدهر لي سوءًا بليت به
والدهر ليس بناج عنده أحدُ
قد كان لي جسد قبلا أعيش به،
واليوم قد صار نصفًا ذلك الجسدُ
والحمدلله، شكوى الجسم هينة
ما دام يسلم منا العقل والرشدُ

وحادثة طريفة على الأقل بالنسبة إلي، فقد كانت جدتي تردد بعد وفاة ابنها وخالي جبران الأبيات التالية في الرثاء، تقول:
ذهب الحبيب! فيا حشاشتي ذوبي
أسفًا عليه، ويا دموع أجيبي...
يا أيها الأم الحزينة، اجملي
صبرًا، فإن الصبر خير طبيبِ
لا تخلعي ثوب الحداد، ولازمي
ندبًا عليه يليق بالمندوبِ
لم أكن أعرف عندما كانت جدتي ترثي خالي أن هذه الأبيات هي للشيخ ناصيف، وقد نظمها في رثاء ابنه حبيب، وهي آخر شعر له ولم يستطع إكمال قصيدته.
لا أريد أن أنهي كلمتي في الشيخ ناصيف بأنة حزن، إذ له في الوصف مطلع قصيدة يقول فيها:
هذِهْ عروس الزهر نقطها الندى
بالدر، فابتسمت ونادت معبدا
لما تفتق سترها عن رأسها،
عبث الحياءُ بخدها، فتوردا.. .
بلغ الأزاهر أن ورد جنانها
ملك الزهور، فقابلته سجّدا
فرنا الشقيق بأعين محمرة
غضبًا، وأبدى منه قلبًا أسودا.. .

وبين هذه القصيدة وقصيدة الأخطل الصغير "الصبا والجمال" نسب وقرابة.
وللشيخ ناصيف أرجوزة في الصرف عنوانها "الجمانة في شرح الخزانة"، وكنت أحفظها غيبًا أيام الفتوة، فأردّد:
الصرف علم بأصول تعرفُ
بها مباني كِلم تصرف
والأحرف التي اتبنت منها الكِلم
إلى صحيح وعليل تنقسِم
واحرف العلة واو وألف
والياء والباقي بصحة وصف
وادعُ من المعتل حرف لينٍ
ما قد جرى منه على السكونٍ...
وهذه الأرجوزة أفادت الفتى الذي كنتُه في علم الصرف، وأفادت الأب الذي صرتُه في اختيار اسم لابنته جمانة.
رحمك الله يا شيخ ناصيف، يا أبا ابراهيم ومن كان مثلك، وخلّف مثلك ما مات بل أمدّ الحياة بالحياة.
والشيخ ابراهيم اليازجي كان من أساتذة الكلية البطريركية، وبقي ظله يخيم على الكلية حتى أيام دراستي فيها، وكان الأحب إلى فتى ذلك الزمان الذي شب، وما يزال الأحب إلى شيخ هذا الزمان الذي شاب. وكنت أشدو بشعره الوطني طربًا:
تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركبُ...
فشمروا وانهضوا للام وابتدروا
من دهركم فرصة ضنت بها الحقبُ...
بالله يا قومنا هبوا لشأنكم
فكم تناديكم الأشعار والخُطبُ
ألستم من سطوا في الأرض وافتتحوا
شرقًا وغربًا وعزوا أينما ذهبوا

إلاّ أنني اطلعت في الكلية البطريركية على نثر الشيخ ابراهيم، وخصوصًا مقالاته العلمية ذات الأسلوب الموسيقي المشرق، وكان الشيخ ابراهيم يحب الموسيقى فبثها في جمله، ويحب الجمال فأشاعه في كتابته، ويهوى العلم فهذب عقول جيلي بعلمه وما أزال حتى اليوم أتذكر بل أذكر دهشتي عندما قرأت للمرّة الأولى مقالته في الأرض، وفيها يقول:
"إن دوران الأرض حول محورها قد ثبت بالاختبار وأيد بشهادة الحس.. وأما الدورة السنوية، وهي دورة الأرض حول الشمس، فلم ينتبه لها العلماء إلا بعد الدورة اليومية بزمن... أما سبب دوران الأرض حول الشمس فهو دوران الشمس على محورها، حين كانت الأرض جزءًا من محيطها، فلما انفصلت منها لبثت دائرة حولها.. إن لكلتا الدورتين سببًا واحدًا، وذلك... أن الأرض انفصلت عن الشمس بقوة قذفتها من محيطها إلى الفضاء..."، وكنت أذهل عندما أقرأ أن الأرض جزء من محيط الشمس، بل منها، وأنها انفصلت عنها بقوة قذفتها في الفضاء.
ونوع ثان من مقالاته كان يثيرنا بإيقاعاته ومنها وصفه القمر:
"... هو مثال الرونق والجمال، وآية الابهة والجلال... خلا إليه العاشق يتذكر وجه حبيبه... وأوى إليه المسهَّد، فكان سمير سهده، واتخذه المسافر رفيقًا فذهل به عن مخاوف سفره...".
أما لغة الجرائد ونقد الشيخ ابراهيم لها، واللغة والعصر وأخذه بها، وتبسيط أحرف اللغة العربية واختزالها من مئة حسب تعدد مواضعها، إلى ستين حرفًا فطواها النسيان، وطوى معها أن العلم تذكر والجهل نسيان.
ومن طلاب الكلية البطريركية الشاعرخليل مطران، وقد كرّمته الكلية بإقامة تمثال نصفي له عند مدخلها، وهذا التمثال هو أول من يستقبل الداخل وآخر من يودع الراحل، ويوم إزاحة الستار عن تمثال الخليل ألقى أستاذي الحبيب سلام فاخوري قصيدة قال فيها:
قم يا خليلَ الضاد كفكف دمعها
فالضاد تبكي العز في ابانهِ
ويحَ الأديبِ وويلَه في أمة
أربابها دأبوا على حرمانهِ
يحيا الأديب بموته وحياته
موت وواسطة إلى نسيانهِ
ما أنت أولَ شاعر أو عبقر
نصبوا له تمثاله بمكانهِ
إن المصيبة في بلادك انهم
أن يكرموا رجلًا ففي أكفانهِ
وكأنما الجلمود أسمى عندهم
قدْرًا ومنزلة على إنسانهِ
واسمحوا لي أن أقف وقفة عرفان ووفاء وإجلال لدى ذكرى استاذي سلام فاخوري، فقد كان شاعرًا مطبوعًا، وخطيبًا لامعًا، وسيدًا من أسياد المنابر، تتدفق لغته سيلًا من الفصاحة يجري جريان النفَس في الصدر، والدم في العروق والنبض في القلب، أستاذي في تاريخ الأدب العربي، وفنون الأدب الشعرية والنثرية، وفي البيان والعروض، أستاذي في المسرح، يؤلف المسرحية شعرًا ونثرًا، ومنها مسرحية "طفل وشاعر"، ويطلب مني أن أمثل فيها دور الشاعر، فيدربني على التمثيل والإلقاء، وأَنظُم القصيدة، وكنت فرخَ شاعر، فيقرأها ويصحّح ويسأل ويشجّع، وكنت أعرف أنه يتألّم من داء عضال وأعجب له يطلق النكتة صدّاحة أو يغضب محقًّا، أما عدوّه الأكبر والألد فالتعصب: يا أولاد إياكم والتعصب.
أما خليل مطران فكان مرشدي إليه الاستاذ فؤاد الباشا، بدأت معه بقصيدة المساء، وفي الصباح لم أسكت سكوت شهرذاد عن الكلام المباح، فمن قصيدة "المساء" إلى قصيدة "مقتل بزرجمهر" إلى قصيدة "الأسد الباكي" إلى قصيدة "وفاة عزيزين"، إلى قوله فيها ما رددتُه وما أزال:
الأمان! الأمان! ألقيت سيفي
وطويت اللواء تسليم راغمْ
خان عزمي الشباب، واقتص ضُعفي
من ثباتي، وكيف مثلي يقاومْ
إن من سيفه شباب نضير
فعيوب الشباب فيه مثالمْ
والذي درعه فؤاد رقيق
فجريح إن يُقتحم أو يُقاحمْ
ولا أنسى أستاذي في قواعد اللغة العربية فارس سعاده، وأستاذ الجميع في الإعراب ادوار الباشا، فما وقعنا في مشكلة اعرابية إلا لجأنا إليه فوجدنا حلها عنده، منه تعلمت الاعراب، وفي كتبه علمت، وامتدت علاقتي به حتى جاوز التسعين من العمر، وأذكر أستاذي بولس الخوري، وهو أول من هداني إلى الأدب الفرنسي ومدارسه الأدبية من كلاسيكية إلى رومنطيقية إلى رمزية، أطال الله عمره وزادنا بعلمه علمًا.
والنبراس المشع في مرحلة حياتي تلك كان الأب حنا الفاخوري، بتدريسه انتفعت وبكتبه تعلمت وعلمت وما أزال:
تاريخ الأدب العربي رافقته من الطبعة الأولى 1951، حتى طبعته الأخيرة: العشرين 2008، والموجز في الأدب العربي، والخلاصة في الأدب العربي، منارات مشعة لي ولأبناء جيلي لا تنطفئ ما دامت لي عينان ترنوان إلى دفقة نور.
زقاق البلاط، بل جادته الرحيبة الفيحاء، من الكلية البطريركية، إلى المدرسة الوطنية لمنشئها العظيم المعلم بطرس البستاني، إلى جامعة المقاصد، إلى المركز الألماني للأبحاث، إلى مكتبة لبنان، إلى جريدة "لسان الحال" لخليل سركيس، إلى قصر بشارة الخوري، إلى ليسيه عبد القادر، إلى منزل السيدة فيروز، إلى الكلية البطريركية بعهدها الجديد وقداماها المتحلقين حول رئيسها الجديد وباعث نهضتها المباركة الأب ميشال سبع، إلى كل من أسهم في نهضة زقاق البلاط الشكر والدعوة إلى مزيد من العمران والثقافة وإحياء التراث، فلبنان إنسان ورسالة وتراث.
[1] ناصيف اليازجي، مجمع البحرين، الصفحة 323.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire