vendredi 18 mars 2011

"لبنان الشاعر" لصلاح لبكي


ألقيت في جامعة سيدة اللويزة
22-03-2007


عنوان الكتاب ينسُب الشاعرية إلى لبنان، وفي الكتاب سياقات توحي بأنّ لبنان هو الشاعر، وأنه بارئ الشعراء ومبدعُهم، فما شعرهم إلاّ امتداد لشعره، وما جمال قصائدهم إلاّ تجليّات جمال طبيعته وسحر تكوينه، وقديمًا قيل الأدب ابن بيئته، وبالنسبة إلى لبنان حقّ القول بأن لبنان والشعر صنوان بل توأمان، فالشعر هو ابن لبنان الشاعر، والشعراء هم أبناؤه المختارون المبارَكون.
ويسأل صلاح لبكي سؤال مجيب عارف: "لماذا انطلق دائمًا من جبالنا ونشأ في سهولنا وعند شواطئنا شعراء كما تبوح الورود وينمو البيلسان، أو كما تعصف العواصف وتشُعّ الأضواء. إنّ لفي طبيعة لبنان من التوازن والاتساق والجمال ما يفيض بعضُه على النفوس ويحرّك القلوب. لقد قام منذ أبعد العصور بين اللبنانيين وطبيعة بلادهم صداقةٌ حميمة... هي تغدق وتشعّ وتلون، وهم يبثون ويفزَعون إليها ويحنون ويعبدون. فترتفع القلوب أنغامًا وتنطلق العقول استنطاقًا عن المكنونات والبواعث والعلل"
[1].
ويقف صلاح لبكي عند جبران ليبرز ارتباط أدبه بلبنان، فيقول: "... جبران لبناني يحسّ في أعماق أعماقه آلام لبنان، وهذا اللبنان الذي استمدّ هو من جباله ووديانه وسهوله وبحره وأغساقه وأسماره ألوان ريشته وصور خياله، وأحبّ أهله وتغنّى بهم، وبحبّ فلاحي بلادنا ورعاتها وكراميها وآبائها وأمهاتها، بحب البنائين والفَخارين والحائكين وصانِعي الأجراس والنواقيس فيها، قد تغنّى..."
[2].
وانعطف على شعر الياس أبو شبكة فبين علاقة شعره بلبنان الشاعر فقال: "أما الطبيعة، الطبيعة اللبنانية، والحياة اللبنانية، وما يرافقها من عادات بريئة مستحبّة فقد غناها أبو شبكة كما لم يغنها أحد من قبله:...
غنى الشتاء:
أمطري واعصفي وارقصي واعزفي...
غنى:
الوجاق والموقدة... والصاج
والجرن والمهباج...
غنى:
النبيذ العتيق... والإبريق...
والرفش والمعولا والموسم المقبلا..."
[3].
وميزة ثانية خُصّ بها اللبناني، وهي كونه معماريًّا، وهذه السِّمة لفتت صلاح لبكي، فوقف عليها فصلاً كاملاً من لبنان الشاعر، ونظر في قول القائل: "الحكمة بنَت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة"، وقرنه بالعمران في مدينة جبيل، إذ فيها شيّد أول بيت في العالم بالحجر الموقع، هو بيت الأعمدة السبعة، في الوسط يرتفع واحد، ويصطف إلى الجانبين ثلاثة ثلاثة، والعقل البنّاء هذا تجسّد عمارات شعريةً علاّها الشعراء اللبنانيون، "والبناء في أخص خصائصه إنشاء موحّد التصميم، متماسك الأجزاء، تسوده فكرة واحدة على ما فيها من تشعّب ودقائق متعدّدة، تستقر معه الأجزاء متناغمة في الكل ويشمَل الكلُّ جميعَ الأجزاء"
[4].
ويمعن صلاح لبكي في تقصّي بنايات الشعر اللبناني، من مواكب جبران ذات الاتجاهين:
هل فرشت العشب ليلاً وتلحّفت الفضـا
زاهـدًا في ما سيـأتي ناسيًا ما قد مضى
وسكـون الليل بحـر موجه في مسمَعك
وبصـدر الليل قلـب خافق في مضجعك
أو قول جبران:
والحق للعزم والأرواح ان قويت
سادت وان ضعفت حلت بها الغيرُ
وفي الزراير جبن وهي طائرة
وفي البزاة شموخ وهي تحتضرُ
إلى على بساط الريح لفوزي المعلوف، مبديًا وحدتَي المطولة: وحدة الرحلة إلى عالم الأرواح، ووحدة الموضوع في القصيدة:
هو حلم مجنح رافق الشاعر
يطوي الأجيال جيلاً فجيلا
خلعت يقظةُ العقول جناحين
علـيه يحيـران العقولا...
صعد الطرف في الأثير تجدني
قاطعًا في الأثير ميلاً فميلا
إلى مطولة عبقر لشفيق المعلوف، وهي موحّدة الموضوع يستقطبه الإنسانُ"... بشهواته وأوهامه ونقائصه وأحلامه وقنوطه وحكمته..."، "ولولا أن الشاعر قد فسح للخلاص باسم الحب... لكانت أمثلَ كتابِ للتشاؤم":
وَيْحك يا إنسـان ألق عصا سحرك
ذعرت فينا الجان فعذن بالشيطان
من شرك
إلى قصيدة غلواء لإلياس أبو شبكة، وهي قصيدة الإثم والندم والغُفران:
أمام هذا الهيكل الأطهرِ أمام عين البائس الأكبرِ
أمام أوجاعي أمام الألمْ أمام هذا الضعف هذا السقمْ
وهذه العين التي لم تنمْ
اطرح قلبي للهوى مجمرهْ
وينظر صلاح لبكي في "قدموس" رائعة سعيد عقل من حيث هي بناية شعرية هدفها تمجيد لبنان وتحديد رسالته، فالبلاد التي يتغنّى بها سعيد عقل "كانت إحدى مراكز النشاط العقلي الأولى، إحدى مراكز المعرفة والحضارة، تمكّن الإنسان فيها أن يتغلّب على غرائزه، ويحرّر قواه الروحية، ويتوصّل إلى المحبة الخالصة، إلى جوهر الجمال في الكائن، إلى معانقة النور المنتصر...":
... ولبنان عهدُ
ليس أرزًا، ولا جبالاً، وماءً،
وطني الحبّ، ليس في الحب حقدُ.
وهو نور فلا يضَل: فكدٌّ
ويـد تـبـدع الجمـالَ وعقـلُ
لا تقل: "أمتي"، وتسطو بدنيا
نحن جـار للعـالمـين وأهـلُ
ولا أنسى مطولة سأم للشاعر صلاح لبكي نفسِه، فقد عرض لها فؤاد كنعان كمطولة ذاتِ عمارة واحدة في موضوع واحد، يصور سأم آدم قبل حواء، وإيناسَه بعدها، وتيهَه وإياها:
- سئمت يا ربّ، ولا شيء في
الأرض يزيل السأم العاديا
تعبتها لذائذًا كلّما
دنوت ولّت هازئات بيا...

ومرّ ظل فإذا آدم
يقول: يا للحلم! هذي هيا
***
حواء وحيُ الأعالي أم من نسيج خيالي
في مقلتيـك التماع من روعـة وجلال
حواء هـل أنت الا أغنـيتي وسـؤالي
وإذا في البعيد، عند قيام
الدهر، طيفان يسحبان الهوانا...
[5].

ولبنان الشاعر في رأي صلاح لبكي، فضلاً عن كونه صورة لجمال طبيعته وسموّ معماريته وبنائه، انفتاح على العالم الرحب بل رسالة موجّهة إليه، وصاحب الرسالة لا يعرف الانكفاء، فاليد المنقبضة الأنامل ليست يدًا، ولولا الأنامل ما كانت اليد ولا كان العطاء، فلا انطواء على عربي ولا حدّ، ولا نَفْرة من أجنبي ولا بعد، من أوائل التاريخ من موطن الأجداد انطلاق وامتداد سفني، أرجواني، بلّوري، أحرفي نوراني براق: "وكانوا يسمعون وكانوا يرون وكانت نفوسهم ترتفع وقلوبهم تهتزّ بعاطفة من الحب الشامل. وإذا هم ينعمون بمدنية ما عرفت الدنيا مثلها من قبل. وإذا بيبلوس وإذا صيدون وإذا صور تحمل إلى أقاصي المعمور، إلى الذين لم يروا وإلى الذين لم يسمعوا فيضًا من خيراتها، وفيضًا من حبّها، وفيضًا من إنسانيتها"
[6].
ولا يكتفي صلاح لبكي بالنثر اعتزازًا إذ لبنانه شاعر، فيشفع النثر بالشعر:
أرى من خلال الزمان البعيد
قوافل تمـتد من شط صورِ
وتسري على هينمات الحداة
وتغدو على زقزقات الطيورِ

فيرتقص الكون تيهًا ويزهو
ويرفُل بالأرجوان الوثيـرِ
[7].
ويتلّي:
أتيـتَ تحمـل نبـراسًا إلى بلـد
ضاءت نباريسُه في الأرض أزمانا
هل الحضارات إلا بعض ما نفح الـ
دنيا اعتـزامًا وآمـالاً وعمـرانا
بنـى البنـاء فأعلى من حجـارتـه
وخصَّب الفكر تجـريدًا وبـنيانـا
لـولا هـداه لما كان الوجـود كمـا
كان الوجود ولا الإنسـان إنسـانا
[8].
وصلاح لبكي، في لبنان الشاعر، جدلي مقارِن في تعاطيه مع تطوّر الشعر اللبناني. إنّه حركي النزعة لا يأخذ بالطَّفرة تنبجس ولا بالصحوة تهبط، فالشعر بدأ تقليدًا للقدامى لدى الأخطل الصغير، ثم جاور التقليد تجديدٌ مرده إلى الرومنطيقية لدى الأخطل نفسِه، وانطلق رومنطيقيًّا، خالصًا مع إمامها الياس أبو شبكة، فالحركة: تقليد، ثم اقتران التقليد بالتجديد، ثم خلوص إلى التجديد صرفًا.
ويسوق صلاح لبكي الأدلة على تقليد الأخطل الصغير:
المهى أهـدت إليهـا المقلتين
والظبـا أهـدت إليها العنقا...
ورمى في صـدرها رمانتين
من رأى الرمان فوق الخيزران
فهما في صدرها كالموجـتين
أي صب ما تمـنّى الغـرقـا؟
[9].
أما التجديد فيلحظه في قول الأخطل:
اسقنيها بأبي أنت وأمي
لتجلو الهمّ عني، أنت همّي
إملأ الكأس ابتساما وغراما
فلقد نـام الندامى والخزامى
زحم الصبح الظلاما فإلاما
قم ننهنه شفتينا، ونذوّب مهجتينا، رضي الحب علينا
يا حبيبي
[10] .
وتبلغ الرومنطيقية أوجها مع الياس أبو شبكة، فهو رومنطيقي بمزاجه المنفصم بين العنف والرقة، والصحة والمرض، والبراءة والإثم، وكبريائه في وجه الشقاء، "فهذا المزاج الفريد هو الذي حمله على أن يختار لنفسه مقامًا بين صفوف الرومنطيقيين الفرنسيين... حتى يصِحَّ القولُ فيه: انه لو لم توجد الرومنطيقية قبله لأوجدها هو"
[11].
وتغنّى صلاح لبكي بشعر الياس أبي شبكة:
إجرح القلب واسـق شعـرك مـنه
فدم القلـب خـمـرة الأقلامِ
مصدر الصدق في الشعور هو القلب
وفي القلب مـهبـِط الإلـهامِ
رُبّ جـرح قد صـار ينبـوع شعر
تلتقي عنده النفوس الظوامي
[12].

ويلجأ صلاح لبكي إلى طريقة المقارنة مصحوبة بالحركة النامية في تقصيه تولُّدَ الشعر الرمزي لدى شعراء لبنان، فكما اقترن التقليد بالرومنطيقية قبل انطلاقها في شعر أبو شبكة، هكذا اقترنت الرومنطيقية بالرمزية في أدب جبران، فالطابع الرومنطيقي يغلب على أدب جبران إلاّ أننا نجد لديه بذورًا تعزى إلى الرمزية نمت وأينعت وأتت أُكُلَها في شعر سعيد عقل، فالرمزية وفق صلاح لبكي قائمة على الموسيقى الشعرية والغموض الموحي الذي لا يقيد المتلقّي بانطباع يُفرض عليه فرضًا بل هو يُفسح له في المجال ليعدّد استيحاءاته، وجبران رمزي لأن الغموض لديه يوحي إلى قارئه، ولكنه لا ينفك يعمل على إجلاء غموض وحيه حتى يقيد القارئ به، والرمزية جو موسيقي يلفّه الغموضُ الموحي بلا تقييد.
ويعرض صلاح لبكي لبداية الرمزية في لبنان مع "نشيد السكون" لأديب مظهر، ومطالِعها عند يوسف غصوب، قبل أن يبلغ الشعر الرمزي في لبنان "... أكمل وأجلى مظاهِره مع سعيد عقل"
[13]. والرمزية إيحاء بالشعور إيحاءً بواسطة موسيقى الشعر ورموزِه، وهي غناء صافٍ متجردٌ من الفكرة الواضحة والانفعال الشخصي والإعلام الظاهر"[14].
وبالنسبة إلى سعيد عقل هي سيطرة نغم القصيدة على الشاعر قبل شروعه في النظم، ومن هذه الومضة، من هذه النسرة، من فِلْذَة الجمال هذه ينبثق الشعر، ولكن "لا وجود لأية شرارة جمال إلا ووراءَها عمر من التحضير والكدّ"
[15].
ويتغنّى صلاح بشعر سعيد:
أجمل من عينيكِ حبّي لعينيكِ
فإن غـنّيـت غنّـى الوجـودْ
في نجمنا أنت وفي مـدعى
أشواقنـا أم في كَذاب الـوعودْ
كنت ببالي فاشـتَمَمْتُ الشذا
فيه ترى كنت ببال الورود...
[16].
ولغة لبنان الشاعر هي العربية، ومن المسلّم به أن لغة لبنان الأصلية هي الآرامية، ولكن لغات متعدّدة مصرية، حثية، بابلية، آشورية، فارسية، إغريقية، لاتينية، عربية، تركية، تعاقبت على لبنان، ثم حلّت اللغةُ العربية محلَّ الآرامية
[17].
وصلاح لبكي ضنين باللغة العربية، ولكنه يرفض مقولة طه حسين بأن بعض شعراء المهجر، لعجزهم عن إتقان العربية اتّخذوا الضعف اللغوي مذهبًا
[18]، وينهي: "ولولا أن المجيدين من شعراء المهجر قد تفادوا الركاكة والعبث بحُرْم اللغة والأوزان والقوافي... لما جاز لنا التحدّثُ عن شعرهم ]و[ لو جاز التوقّف عند نزعاتهم الفكرية"، فالجمال ".. لا يُشرق إلا معتمدًا على ركنيه المعنوي والشكلي، فإذا تداعى أحدُهما انهار البناء الجميل كلُّه"[19]



.
[1] صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1981، الصفحتان 132 – 133.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 187.
[3] صلاح لبكي، "لبنان الشاعر" الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 259.
[4] فؤاد افرام البستاني، عن صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 292.
[5] صلاح لبكي، سأم، الأعمال الكاملة، المجموعة الشعرية، الصفحات: 143، 147، 159.
[6] صلاح لبكي، من أعماق الجبل، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 23.
[7] صلاح لبكي، أرجوحة القمر، الأعمال الكاملة، المجموعة الشعرية، الصفحتان 34-35.
[8] صلاح لبكي، غرباء، الأعمال الكاملة، المجموعة الشعرية، الصفحتان 218 – 219.
[9] صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحتان 170-171.
[10] صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 176.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 254.
[12] صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 254.
[13] صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 272.
[14] المصدر نفسه، الصفحة 272.
[15] المصدر نفسه، الصفحة 274.
[16] صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 284.
[17] أنيس فريحة، اللهجات وأسلوب دراستها، بيروت، دار الجيل، 1989، الصفحة 130.
[18] صلاح لبكي، لبنان الشاعر، الأعمال الكاملة، المجموعة النثرية، الصفحة 240.
[19] المصدر نفسه، الصفحة 241.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire