vendredi 18 mars 2011

ندوة حول كتاب الرؤية الكونيّة في أدب ميخائيل نعيمه للدكتور خليل أبو جهجه


ألقيت في الحركة الثقافية، أنطلياس
24-2-2010





بالنسبة إلى كتاب الدكتور خليل أبو جهجه "الرؤية الكونية في أدب ميخائيل نعيمه"[1]، هذا الكتاب يعيدني إلى مرحلة من العمر جميلة وشيّقة، على صعوباتها وآلامها، وهي المرحلة التي كنت أتعاون فيها مع صديقي الدكتور الشاعر أدونيس. وكان أدونيس قد أشرف على الأطروحة الأولى لخليل لنيل دكتوراه حلقة ثالثة سنة 1982 في معهد الآداب الشرقيّة – جامعة القديس يوسف. وكان هو واسطة الخير بيني وبين الدكتور أبو جهجه. وبعد اجتماع لجنة المناقشة، وبعدما ناقشنا الدكتور أبو جهجه في أطروحته قرّرنا آنذاك أدونيس وأنا والعضو الثالث أن نمنحه شهادة الدكتوراه بدرجة جيد جدًا.
ثمّ بعد ذلك، أخذني الدكتور أدونيس جانبًا وكان عازمًا على مغادرة لبنان إلى فرنسا أو ربّما كان قد غادر وعاد إلى لبنان لنقوم بعدد من المناقشات معًا ثمّ لينتقل عائدًا إلى فرنسا، وقال لي: "أوصيك بخليل خيرًا". فقلت له: "وأنا عند الوصاية".
اتّصل بي خليل وكان يحمل شهادة الدكتوراه، واقترح عليّ أن أشرف على أطروحته لإعداد شهادة دكتوراه دولة PHD من الفئة الأولى. حدث ذلك في العام 1982 أي مباشرة بعدما كان قد أنهى أطروحته الأولى. وأعتقد أنه كان يعمل ليل نهار، حتّى أنّه في بعض الأحيان كان يقطع نفسي في آخر كلّ أسبوع، فيأتيني في كدسة من الكتابات التي تتناول موضوع أطروحته.
بدأ إعداد الأطروحة عام 1982، وأعتقد بأنّه كان قد أنهاها في نهاية 1985، إلا أنّني ارتأيت أن يعيد النظر في كثير من الأمور المتعلّقة بها وأن يأخذ في الاعتبار وجهات نظر أعضاء اللجنة الكرام في ذلك الوقت.
د. خليل، رجل صريح ومتواضع وحيويّ، هذا ما ذكره في الصفحة 16 من أطروحته عندما قال: إنّ هذا الكتاب هو في الأساس أطروحة دكتوراه، أشرف عليها العبد الفقير.
ارتأيت في العام 1984 أن نذهب معًا إلى الأستاذ نعيمه وأن يتولّى الدكتور خليل عرض رؤيته كاملة على الأستاذ نعيمه بالنسبة إلى أطروحته، ومواضيع وتفسيرات وهيكلة.
وأذكر فيما أذكره، أمرًا لم يورده الدكتور أبو جهجه في أطروحته ما قاله له الأستاذ نعيمه، أستاذي رحمه الله. قال له: "يا خليل، أنت تعرف نعيمه أحسن من نعيمه".
ولست أدري لماذا أورد خليل صورته أو رسمه مع نعيمه في الصفحة 445 وأنا لم أشأ أن أظهر في الصورة لأنني كنت أعلم أنّ الاحتفال يجب أن يكون بالعريس وليس بأهله.
هذه هي الظروف التي أحاطت بوضع هذا الكتاب، أمّا فكرة هذا الكتاب فأنا عادة لا أطلب من أيّ طالب أو زميل أو صديق، أن يقوم بهذا العمل، قلت له: أقترح عليك نقيض ما قمت به أنا. أنا درست الخوارق عند ميخائيل نعيمه أيّ الناحية التي تتخطّى المعقول أو تتخطّى الحياة الاجتماعيّة المألوفة والاتّجاه بالنسبة إلى الدراسات التي تتناول أدب نعيمه ينحو نحو ما أسمّيه "المجرّدات". بقيت الناحية الاجتماعيّة، فميخائيل نعيمه على الرغم من إطلاق توفيق يوسف عوّاد عليه لقب "ناسك الشخروب"، هو إنسان عاش في مجرى الأحداث العالميّة، ولا ننسى أنّه عاش في نيويورك من العام 1916 حتى العام 1931، "الزلمي عاش في نيويورك"، فهو لم يعش على هامش المدن والمجتمعات وتراكيب المجتمعات.
وعلينا ألاّ ننسى أنه عاش في روسيا القيصريّة منذ العام 1906 حتى العام 1911. ونعرف أنّ روسيا في ذلك الوقت كانت تغلي غليانًا بالثورات، بل إنّ ثورة وقعت عام 1905 قبل حضور نعيمه إلى مدينة بولتافا ليلتحق بسمينارها عام 1906. إذًا القضيّة من ناحيتين تعني أنّ نعيمه كان مطّلعًا على الأوضاع الاجتماعيّة والطبقات الاجتماعيّة الروسيّة وأنّه كان مطّلعًا على الأوضاع الاجتماعيّة والطبقات الاجتماعيّة في أميركا. يُضاف إلى ذلك أنّه ينتمي إلى طبقة فقيرة تعمل في الأرض وتعيش من الأرض ولها. إذًا نعيمه من حيث خبرته الاجتماعيّة هذه الخبرة واسعة النطاق، زراعيًّا في لبنان، مدينيًّا في أميركا وثوريًّا في روسيا القيصريّة. بل إنّ بعض كتاباته يدلُّ من قريب على أنّه كان يتوقّع، بسبب الطبقات الاجتماعيّة التي كانت سائدة في روسيا القيصريّة آنذاك، ثورةً، وهذا ما حدث بالفعل، في ثورة أوكتوبر 1917. إذًا الناحية الاجتماعيّة لم تكن غريبة على نعيمه. قلت لصديقي خليل: أقترح عليك أن تدرس الناحية الاجتماعيّة وهي ثريّة جدًا. إلا أنّ المشكلة الأساسيّة هي أنّ مواقف نعيمه من المجتمع ليست نقطة انطلاق، بل هي نتيجة لأسباب، وعليك أن تركن هذه الأسباب لتفسّر مواقف نعيمه الاجتماعيّة. ويمكنك في ذلك أن تعوّل على ما قام به "لوسيان غولدمان" في دراسته مسرح راسين. درس غولدمان مسرح راسين لذاته وبذاته كما نقول بنيانيًّا وتكوّنيًّا ثم عندما أراد أن يفسّر المواقف الراسينيّة عاد إلى المواقف الجنسينيّة في فرنسا. نعرف أنّ راسين نشأ منشأة جنسينيّة ثم خالفها للركون إلى المسرح ولكن غولدمان يعتبر أنّ الآليّة والعقيدة الجنسينيّة كانت كامنة في أعماق أعماقه عندما بدأ يضع مسرحيّاته وهذا ما يظهر أكثر ما يظهر في مأساة Phèdre.
إذًا هذا ما قلته لأخي خليل. أنت حرّ في أن تقبل ما أقترحه عليك أو في أن ترفض وتختار موضوعًا آخر. ولكن لماذا اقترحت على خليل أن يعالج مثل هذا الأمر لأنّني كنت أعرف يقينًا أنّ له الاستعداد الكامل لمعالجة مثل هذه الأمور من خلال أطروحته الأولى في الحلقة الثالثة ومن خلال أحاديثنا الكثيرة. كنت أعرف أنّه يهتم بالشأن الاجتماعيّ وبالشأن الوطنيّ وبالشأن الإنسانيّ، وأنّ في كيانه من القوى الكامنة ما يستطيع أن يحقّقه وينجزه في هذا العمل.
جاءني بعد ذلك، وقال لي أقبل الاقتراح، وبدأنا العمل في الظروف التي أشار إليها د. أنطوان سيف (الحرب). يأتي خليل من أقاصي الأرض في الجنوب إليّ في بيروت أو إليّ في "الغينة"، فأطمئنّ إلى وصوله سالمًا وكان عليّ أن أطمئنّ إلى رجوعه سالمًا، فيعود سالمًا وأخاطر أنا بحياتي.
تلك هي الظروف التي وضع فيها خليل هذا العمل.
أرجو منه أن يعود إلى ص 545، وأن يذكر تحتها ما ذكره الأستاذ نعيمه لأنّ نعيمه كان يزن كلماته، وعندما يقول لباحث أنت تعرف نعيمه اكثر من نعيمه، يعني ذلك وهذه شهادة حق. في هذه الأطروحة نعيمه وجد نعيمه ولم يجد حيدًا عن أفكار نعيمه.
بالنسبة إلى القضايا المعالجة في هذه الأطروحة فهي القضايا الاجتماعيّة، وهذا ما سوف أقف عنده وقسّمنا العمل مع الدكتور أنطوان سيف، هو يهتمّ بالقضايا التكوّنيّة، الرؤية الكونيّة البنيانيّة وأنا أهتمّ بالنواحي الاجتماعيّة ثم يتصدى لنا الدكتور خليل فيعدّل في آرائنا ويقول ما يشاء.
أقف عند القضيّة الأولى وهي من القضايا التي اهتمّ بها الدكتور أبو جهجه في أطروحته، قضيّة علاقة الرجل بالمرأة. أُخبر انطلاقًا ممّا قاله وانطلاقًا ممّا أعرفه عن نعيمه وعن هذه الأطروحة. قال الدكتور أبو جهجه استنادًا إلى نظريّة نعيمه في المرأة والرجل: الرجل بعد تكوينه كان وحيدًا واحدًا لا واعيًا والمرأة ليست كائنًا مستقلاً عن الرجل فالله قد استلّها منه والرجل بعد خلق المرأة ازدوج فأصبح رجلاً وامرأة، هما الانسان. الرجل انسٌ والمرأة انسٌ وهما معًا انسان، مثنّى الانس الواحد جناحا الطائر الواحد والبشريّة الواحدة. وبعد الازدواج دخل الانسان أنس الرجل وأنس المرأة مراحل الثنائيّة، مرحلة الخطيئة بل كما يرى نعيمه مرحلة الخطأ. والخطيئة الأصليّة الأولى هي في رأي نعيمه الخطأ الأول وهذا الخطأ هو ظنّ الإنسان بأنّه يملك ذاتًا منفصلة عن ذات الله، ذات الانسان من ذات الله فكيف ينفصل عن الله؟ كيف يفصل ذاته عن ذات الله، غربة الإنسان عن الله تذيقه المرارة وعودة الانسان إلى ربّه هي عودة الإنسان إلى نفسه، أيّها الناس وحّدوا الله وتوحّدوا بالله وأيّتها المرأة وأيّها الرجل توحّدا لأنّكما كيان إلهيّ واحد. هذه هي القضيّة التي توصّل إليها د. خليل انطلاقًا من عقيدة نعيمه ويمكنني أن أوقّع عليها مباشرة ولا أعتقد أنّ الأستاذ نعيمه أنكرها في ذلك الوقت أو ينكرها الآن إذا كان هو يستمع إلينا لأنّه يؤمن بالتقمّص. إذن هذه الناحية في رأيي واضحة عند الدكتور أبو جهجه.
الأمر الذي يدعو إلى التساؤل والإشكاليّة التي تتضمّنها هذه المواقف، هي كيف أنّ نعيمه المؤمن بوحدانيّة الرجل والمرأة وتوحّدهما مع الله، كيف لا يقبل بالحركات النسائيّة الداعية إلى التحرّر.
في الواقع، في كثير من كتبه ومؤلّفاته عندما كان النساء يأتينه للإدلاء بآرائهنّ بالنسبة إلى الرجل وظلم الرجال للنساء وظلم القوانين للرجال، كان نعيمه في أكثر الأحوال لا يقبض المواقف الحركيّة النسائيّة مقبض جدّ. هذه هي الإشكالية، لماذا، لأن لنعيمه مفهومه الخاصّ المتعلّق بالحرّية، نعيمه لا يعتبر الرجل حرًا وباستطاعته أن يحرّر المرأة. كان يعتبر الرجل مستعبدًا شأنه شأن المرأة. تستعبد الرجل يستعبد المرأة، ليكن الرجل عبدًا فهو يجعل المرأة أحدًا. هذا هو موقفه من المجتمع. إنّ القوانين الاجتماعيّة جائرة، وهي لا تطبّق المبادئ الإلهيّة لا في الكون ولا في الحياة ولا في المجتمع، ولا في علاقة الرجل بالمرأة.
وما طمح إليه نعيمه لا أقول تحرّر الرجل من المرأة أو تحرّر المرأة من الرجل، بل وجهة نظر محدّدة تُحرّر المرأة والرجل ليسيرا معًا في طريق الحياة بغية إدراك الهدف النهائيّ، الذي حدّده الله للإنسان، إذَا قضيّة الحرّية عند نعيمه أعقد بكثير من قضيّة جمعيّة نسائيّة أو من التصدّي للقضايا الذكوريّة.
النقطة الثانية التي أقف عندها هي قضيّة الشيوعيّة والرأسماليّة. بطبيعة الحال عندما نطرح منهج لوسيان غولدمان نعرف أنّ غولدمان ماركسيّ وهو ينظر إلى المجتمع نظرة ماركسيّة. وهنا أتيح لنفسي أن أحدّد موقع نعيمه الطبيعيّ، ميخائيل نعيمه يعرف موقعه الطبيعيّ معرفة تامّة. كما قلت من قبل هو ابن عائلة فلاحيّة تعمل في الزراعة في الجرود. الآن أصبحنا نتغنّى بالشخروب ومشاعر نعيمه تجاه الشخروب، ولكن إذا نظرنا إلى بقعة الشخروب نعرف أنّها بقعة في الناحية الزراعيّة قاسية جدًا وقليلة الانتاج. كان والد نعيمه يكدّ ويكدح ليؤمّن معيشة عائلته. هذه الناحية جعلت نعيمه يعرف انتماءه الطبيعيّ منذ البداية. وأذكر حادثة وقعت له بعد عودته سنة 1932 إلى بسكنتا، إذ جاءت سيّدة من صديقاته قبل المهجر لتسلّم عليه أو بالأحرى ذهب هو ليسلّم عليها فمدّت يدها مسلّمة وقالت: "ما تواخذني ايديّ مخشربات" فسلّم عليها وقال: "ايدي ناعمة". فعقّب: "متى كانت اليد الخشنة التي تعمل تعتذر من اليد الناعمة التي لا تعمل".
نلاحظ قضيّة العمل الزراعيّ في صلب عقيدة نعيمه الطبيعيّة. الناحية الثانية وهي أيضًا من القضايا الطبيعيّة من حيث أسرة أمّه: نعرف أنّ خالَيه إبراهيم وسليمان هاجرا إلى مصر وجمعا ثروة وعادا إلى قرية بسكنتا وعمّرا بيتًا من قرميد، بيت من قرميد يعني الوجاهة في ذلك الوقت. أمّا بيت نعيمه فكان سطحه من طين وكان يُحدل في الشتاء والنمل يتساقط منه في الصيف. إذًا وعى نعيمه هذا الفارق الطبيعيّ بين عائلة والده وعائلة والدته، وكثيرًا ما كان يسأل أمّه لماذا نحن فقراء وخالي ابراهيم من الأغنياء؟ تقول له أمّه: هو معو مصاري ونحن ما معنا مصاري". ويجيب: "لماذا لا يعطينا مصاري؟
وهكذا الأمر بالنسبة إلى روسيا، عندما هاجر إليها، أو حتّى قبل روسيا، عندما ذهب إلى الناصرة وكان يرى في مدرسته مدرسة معلّميه، كان يرى الحجّاج الروس يأتون وفقرهم وعجزهم ليزوروا القبر المقدّس قبر المسيح. فكان يرى هؤلاء الفقراء وهم الذين يتبرّعون لإنشاء المدارس الروسيّة الأرثوذكسية. كان يقول من أسمال هؤلاء ندرس من فقرهم، إذًا النزعة الطبيعيّة رافقته حتّى الناصرة، وبعد انتقاله إلى روسيا ترسّخت هذه العقيدة. أقول: : في أثناء إقامته في روسيا القيصريّة اعتنق نعيمه، وأقول ذلك على مسؤوليّتي، وأعرف ما أقول، اعتنق نعيمه الاشتراكيّة، لا أقول الماركسيّة"،
لا ننسى، كما قلت الثورة التي حدثت في روسيا سنة 1905 قبل مجيئه، ولا ننسى أنّ نعيمه طُرد من معهد بولتافا. فقد شارك في إضرابه مرغمًا، إضراب نظّمه رفاقه الطّلاب وحملوه إلى المنصّة وطلبوا منه ن أن يلقي كلمة لتأن تنتنتأن يلقي كلمة لتحريض المضربين، وهو الغريب في روسيا والذي نال منحة من حكومة روسيا القيصريّة يهاجم روسيا القيصريّة في عقر دارها. فيُطرد من المدرسة ويسمح له بتقديم الامتحانات خارج الدروس ويدرس على نفسه ثم يقوم بتقديم الامتحانات. وقدّم الامتحانات ونجح.
رجع إلى أميركا، وظنّ الكثيرون أنّ الارتباط بين اليسار وبين الاشتراكيّة وبين نعيمه قد ارتخى بعد عودته إلى أميركا. وهذا غير صحيح. فالذين يقرأون مذكّرات نعيمه في أثناء محاربته في الجيش الاميركيّ، يعرفون أنّ نعيمه يحمل الجنسيّة الاميركيّة، مزدوج الجنسيّة: اللبنانيّة والأميركيّة، عندما حارب في الجيش الأميركيّ "كنت أزداد تطرفًا من الناحية اليساريّة، ولكنّني أخفي ذلك على رفاقي الجنود كي لا يدركوا مثل هذا الأمر".
أعتقد إذا نظرنا في مواقف نعيمه الاجتماعيّة، نحن لا يمكننا أن ندرجه إلا ضمن تيّار اليسار. ولكن إذا نظرنا في عقيدته الكونيّة، هنا أوافق الدكتور أبو جهجه على ما قاله: إذا أردنا أن نفسّر هذه المواقف الاجتماعيّة فإنّنا سوف نعتبرها بطبيعة الحال نتيجة طبيعة مواقفه التيو-صوفيّة الروحيّة. وإذا قلنا الاشتراكيّة واليساريّة والماركسيّة فنحن نعني المادّية، علمًا بأن مذهب نعيمه الباطنيّ هو مذهب روحانيّ مثاليّ. المادة بالدرجة الأولى في سلّم العقيدة الماركسيّة، بينما الروح هي الأساس في عقيدة نعيمه.. الروح قبل كلّ شيء، المُثل قبل كلّ شيء، الله قبل كل شيء، هذه الأمور هي التي جعلت مواقف نعيمه الاجتماعيّة على يساريّتها قائمة على مواقف مثاليّة باطنيّة روحيّة.
النقطة الثانية التي أقف عندها، الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة، وقف عندها أيضًا الدكتور أبو جهجه. نعرف أنّ جبران كان يقول: أنا مواطن عالميّ. ولكنّه كان يردّد من ناحية أخرى، "لو لم يكن لبنان وطني، لاخترت لبنان وطنًا لي". إذًا نلاحظ من ناحية أولى النزعة العالميّة الإنسانيّة، لكن من ناحية ثانية التمسّك بالجذور. وهذا ما نلقاه عند نعيمه، نعرف أنّ نعيمه كما ذكر أبو جهجه يعتبر النزعة الوطنيّة عادة والوطن عادة.
في مذكّرات الأرقش الذي بدأ نعيمه تأليفه عام 1917 وأنهاه عام 1949، في هذه الفترة الطويلة من 17 إلى 49 يُظهر بكلّ وضوح الأرقش من الناحية الفكرية مستعدًّا لأن يتخلّى عن أيّ بقعة من الأرض لأيّ إنسان يزاحمه عليها وان اعتبرت وطنًا. ويقول "ها أنا لا وطن لي ولا أعيش بأيّ مرارة". لا بل يضيف "أنا ابن هذا الوطن الأوسع لا أنتمي إلى بقعة من البقع" ولكنّ الغريب هنا أيضًا، والإشكالية هنا أظهرها الدكتور أبو جهجه: أراد نعيمه توحيد الكون بكامله.
أزيلوا الحدود بين جميع أقطار العالم، وحّدوا الكون كما يحصل في أوروبا اليوم. وحّدوا الكون. ألغى الحدود وألغى الأوطان. أمّا أنا فأقول له: "طلّعت لبنان من الباب وفوّتو من الشبّاك". ثم دعا في دولة الإنسان أن تكون عاصمة دولة الإنسان "لبنان". نوحّد الأرض في دولة واحدة وهي الإنسان. طبعًا هنا يعدّد الميزات ومن هذه الميزات تعدّد الطوائف اللبنانيّة وأيضًا جبال الطبيعة اللبنانيّة وموقع لبنان الجغرافيّ. لا أوطان، لا يريد نعيمه أوطانًا توحّد الأرض ولكنّه يوحّد الأرض ويجعل لبنان عاصمةً لها. ثم عندما سئل عن التقمّص من أين وإلى أين؟ قال: من الشخروب وإلى الشخروب. بيطلع من الشخروب وبيرجع بتقمّص إلى الشخروب. وهذا أيضًا دليل على التمسّك بالجذور الوطنيّة، وأيضًا نعرف أنّ نعيمه أوصى أن يُدفن في الشخروب حيث ينام مستريحًا.
قضيّة الحاكم والمحكوم أشدّد على هذه الناحية أيّ ناحية السلطة. كلّ سلطة برأي نعيمه تسلّط، لا يحقّ لأي إنسان أن يحكم أو أن يتحكّم في أيّ إنسان آخر. الناس سواسية كأسنان المشط، هنالك تعاون وأخذ وعطاء بين الناس. وأعتقد بأنّه كان يحلم بنوع من التنظيمات التعاونيّة اللامركزيّة القائمة على أساس البلديّات وآمل أن نصل إلى مثل هذا الأمر، وأن تتولى الدولة ليس التسلّط بل إدارة هذه التعاونيّات وإقامة التوازن بينها. إذًا كلّ حاكم متحكّم برأي نعيمه وهذا هو رأي جبران أيضًا.
النقطة الأخيرة، المُستغَلّ والمُستغِلّ أيضًا أثارها الدكتور أبو جهجه. نعرف أنّ نعيمه يرفض الاستغلال، ويدعو إلى الإصلاح، ومن فكرة الإصلاح ومصلحٍ يكون الإصلاح نتيجة عقيدته.
عند نعيمه الإصلاح هو نتيجة عقيدة، وهذه العقيدة أشدّد في جوهرها العميق مسيحيّة قائمة على المحبّة، قائمة على المساواة، دينيّة قائمة على الأخوّة البشريّة. نحن جميعًا أبناء الله، لذلك يجب أن نكون متساوين وأن تقوم بيننا العدالة.
يقولون هذا المجتمع هل هو مجتمع واقعيّ الذي يدعو إليه نعيمه أو مجتمع "يوطوبي" (مثالي). نعيمه يعتبرنا أطفالاً لا نزال في مستهلّ الطريق والله واسع الصدر كبير الصبر يتيح لنا في الأعمار تلو الأعمار ما يمكّننا من أن نحقّق المُثل التي نتوق إليها لكي نرتقي أو نرقى إليها شيئًا فشيئًا.
[1] خليل أبو جهجه، "الرؤية الكونية في أدب ميخائيل نعيمه"، منشورات اتحاد الكتّاب اللبنانيين، 2004.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire