vendredi 18 mars 2011

رؤية كرم ملحم كرم




ألقيت في المعهد الأنطوني - بعبدا
30/06/2003




لكلّ روائيّ مُبدع نظرة الى الكون والحياة والمجتمع، نظرة يُعبِّر عنها مباشَرةً بواسطة مُداخلات تُبدي آراءَه وعقيدتَه، أو بطريقة غير مباشِرة إذ ينسبُها الى شخصيات يُحمِّلها وجهات نظرِه، أو يَبثُّها في عِبرة عامة تنجم عن القصة إجمالاً.
وفي سعيٍ إلى تلمُّس عقيدة كرم ملحم كرم من خلال بعض رواياته وأقاصيصه، أَبدأُ بباكورته "صرخة الألم" وقد أَصدرَها في عام 1936، وذكر في التمهيد لها أنه عاش بنفسه أحداثها، قال: "هذه قصة تـنبِض كل كلمة فيها بالحقيقة... وكل ما سمعتْ أذني ورأتْ عيني خَطَّ قلمي. فما زدتُ على ما اتَّفق لي حرفًا... حسبي أن أكون استطعتُ التأريخَ في مأساةٍ شاءَ القدرُ أن أكون أحدَ أبطالها..."
(1).
طبعًا، ليس لنا أن نعتبر "صرخة الألم" سيرةً ذاتية، فهي رواية، أي عملٍ فني، تقوم على تجربة شخصية، ما يُتيح لنا أن نُقرِّب شخصيةَ البطل من شخصية المؤلّف، ونعزو آراءَ الأول الى الثاني.
وثمة رأي في "صرخة الألم" يُـدلي به البطلُ - المؤلِّف، ويتضمّن نظرتَـه الى الأرض. إنها، وفق رأيه أُمٌّ ومقبرة، أُمٌّ تحضُن الحياةَ ومقبرة تُواريها، قال: "... الأرض حية رقطاء، وأُمٌّ حنون... الأرض تُحيي ثم تُميت... لا يوشك المرءُ أن يدرج على سَطْحِ هذه المُتصدِّقة البغيِّ حتى تزِلّ به القدمُ ويتدحرج الى الرمْس. والويل لمَن تزِلّ به القدم. فالأرض فاتحةٌ لابتلاعِه شِدْقَيْها..."
(2).
وهذا الرأي، وإنْ تعلّق بالأرض، هو في شمول دلالتِه موقفٌ من الحياة والموت، ونلحَظُ أنّ المؤلّف يُشدِّد على ظاهرة الموت كخاتمة تقضي على حياة الانسان.
إلاّ أنّ غلَبَة الموت على الحياة لم تَنْتهِ بالمؤلّف الى القول بالعبثيّة والاستسلام. فقد جَدَّ يَبْحَثُ عن الطريقة الفُضلى لمُقارعة الموت. فإذا كان الموت قضاءً على الحياة فإنّ مواجهتَه لا تتمّ إلاّ بالخلود، قال: "... أشعار هوميروس وفرجيل والمتنبي ودانتيه وشكسبير وفكتور هوغو متينَةٌ دعائمُها كدعائم الأرض، ولكن هذه الأرض أودَتْ بهوميروس وفرجيل والمتنبي ودانتيه وشكسبير وفكتور هوغو وإنْ تكن عجِزت عن آثارِهم..."
(3).
اذًا، إنّ الانتصار على إفناء الأرض لأبنائها لا يتحقّق إلاّ بأعمال جليلة تُؤمِّن الخلودَ، ومن هذه الأعمال ما يُنجزه القلمُ، قال: "... هذه الأرض لا يسقيها المرارةَ غيرُ الخلود. فكل ما هو خالد يَعَضُّ قلبَها... فقد كوى مهجتَها القلمُ يوم تعرّف به الإنسانُ الى الكتابة... فالكتابة من رموز الخلود..."
(4).
وبذلك لا تعود الكتابةُ مجرّدَ تأليفِ رواية أو أقصوصة أو مقالة، أو إصدار مجلة على أهميّة هذه الأعمال، فهي في عُمْقِها وهدفها صراع ضدّ الفناء لإثبات الذات وتحقيق الخلود. وفي هذا ما يُفسِّر إكبابَ كرم ملحم كرم على الكتابة ليلَ نهار. كان الرجلُ يصَارِعُ الموتَ ويسعى الى خلوده.
واجه كرم ملحم كرم الموتَ والفناءَ بخلود القلم، وعاش في الحياة تجربةَ الحب. والحب أنواع، فأيٌّ منها هو الغالب على نظرته الى علاقة الرجل والمرأة في رواياته وأقاصيصه؟ إنه الحبُّ – الولَع، الحبُّ الذي يُسيطر على كيان المُحِبّ، ويستحوذ على جميع قِواه قلبًا وجسدًا، فكرًا وخيالاً وروحًا. هو الجوهر المُحْيي، كنهُ الحياة، لبُّها، ومطلقُها، قال مبديًا رأيَه في الحب: "... كل عاطفة باردة مصيرُها الموت. كلّ حبّ فاتر نصيبُه الذوَبان والاضمحلال. فالعاطفة إنْ لم تكن متَّقِدةً فلا تُرضي النفسَ ولا تهزُّ القلبَ... الحبّ إنْ لم يضطرم كالنار ليس حبًّا صادقًا، إنْ لم تُبَطِّنْهُ الغيرةُ فمن المحال أن يدوم..."
(5).
وهذا الحبّ ذو سلطان، بل هو السلطان، على المحبّين، حتى على الجبّارين والعُتاة منهم. وايمان المؤلِّف بسَطوة الحبّ على المحبّين حَمَلَهُ على العودة الى تاريخ العرب يَنْهَلُ منه ما يُوافق نظرتَهُ الى الحبّ، قال في "لُبنى ذات الطيوب": "... الحبّ حُكْمٌ لا مردّ له. فيستأسِدُ ويتَنمَّر ويأبى الاّ أن يفرِض بنودَه كالمشيئة الغلاّبة لا تُقِرّ بهوادة وترتضي في رغائبها عُدولاً أو تعديلاً"
(6).
وفي روايته "أُمّ البنين" يصف سيطرةَ الحبّ على الخليفة البطّاش الوليد بن عبد الملك بقوله: "... الكلمة كلمتُه في الأرواح والأموال... ولم يكن بالمتقاعد عن الاستئثار بالأرواح، وسيفُه لا يستقرّ في غِمده، ولا نصْلتُه تجِفّ، وهي السابحة أبدًا في صهاريج مترعة بالدماء والأشلاء، الاّ أنّ هذا الجبّير القاسي الجَأْش، لم يعدَم غِلالةً من لين... استولَتْ عليها أُمُّ البنين... حتى بات لديها سهلَ المَقادَة، مسلوبَ العزْمة... فهي وحْدَها ذاتُ نَهْيٍ عليه..."
(7).
وهذا الحبّ مصدرُ سعادةٍ لأنه ينطلق من عُمْق أعماق الانسان، ويُحقّق ذاتَه وتوقَ الحياة فيه الى الحياة، ولكنه النار المحرقة وليس بردًا على المحبّين وسلامًا، قال في ذلك: "... الحبّ مع حلاوته لا يخلو من مرارة تطغى عليه ولا تُبقي من أطايبه غيرَ النَّزر الطفيف. الحبّ مع أناشيده العذبة لا يترنّم مبتهجًا فرحًا غيرَ ساعات قلائل، على حين تنقضي معظمُ أيامِه على حسرة وخيبة وامتعاض..."
(8).
وآلام الحبّ ملازمة للحب – الولَع في رأي المؤلِّف، فـالوساوس ترافقه، والغيرة تُواكبه، والتوتُّر يَسِمه، والسعْي الى امتلاك المحبوب يُرهقُه، ومصارعة الزمان القُلَّب، ومغالبة المكان المناوِئ، ومجابهة الأقربين والأبعدين والمجتمع وتقاليدِه، هذه كلُّها تُضنـيه وتُشقيه وتكـاد تُطيحه، بل يكاد هو أن يُحـطِّم ذاتَه بذاته، قـال: "... ليس للحبّ الدفين، حـين يستيقظ، عِلالةٌ من تَـؤَدَة. فيثور كأنه ما يبرح في نشأته. وانه ليبلغ من السَّورة ما يجـنح به إلى التحطيم، والتهديم والحُمْق. وإذا عجِزَ عن فكِّ قيدِه، وإدراك وَطَرِه، ارتدَّ الى نفسه يُقوِّض مناعتَها..."
(9).
وهذا الحبّ الفاجِع هو الذي وصفَه كرم ملحم كرم كرمز في رواياته التاريخية وحتى في أقاصيصه اللبنانية، فحُبُّ روضةَ لوضّاح في رواية "أُمُّ البنين"، وحبُّ مؤمنة لعبد الرحمن في "صقْر قريش"، وأرينب لعبدالله في "دمعة يزيد"، ونَسْـل شاه للجزّار في "قهقهة الجزّار"، وكريمة وفريد في "أشباح القرية" هو من الحبّ – الولَع الحافل بالمآسي، والمُعبِّر عن سعادة مأزومة مآلُها الموت في كثير من الأحيان.
قضية ثالثة تتناول نظرةَ كرم ملحم كرم الى التاريخ العربي والاسلامي واللبناني. إنّ نظرة المؤلِّف الى العَرَب هي نظرة إكبار خصوصًا ما يتعلّق منها ببعض الشمائل العربية كإكرام الضيف، وحماية المُستجير، وصَوْن الكرامة والشرف. إلاّ أنّنا نلحظ في روايته "صقْر قريش" نفورًا من سَفْك الدماء بطشًا وظلمًا وثأرًا، كما نتبيّن في روايته "دمعة يزيد" امتعاضًا من معاوية وابنه يزيد وابنته صفيّة بسبب عنفهم وريائهم، قال: "معاوية ويزيد وصفيّة، مُثَلَّثُ الدهاء العاتي..."
(10).
وموقفه من الإسلام قائم على الإجلال وإبراز ما في الدين الإسلامي من فضائل، قال: "... الإسلام بدَّدَ من انتفاخ الفِطرة، وفظاظة الغريزة، وأقام للسيطرة حدًّا، وللقوة الرعناء أمَدًا ذَهَبَ بالدعوى الجوفاء، أَقَرَّ بحق الضعيف، فالتقوى والايمان هما سلاح الدين الجديد، لا الرمح والسيف، وحَسْب، وقد محا الدينُ الغطرسةَ، ومزَّق غَشاوةَ الجهالة"
(11).
وبالنسبة الى لبـنان نلحظ أنّ في رؤية المؤلِّف اعتزازًا بلبـنان وإشـادةً بأبنائه الطامحين الى الحرية والكرامة والاستقلال. والكاتب يعتزّ بالجَبَل اللبناني، ولكنه يتصدّى لما يُشوِّه تقاليدَه من عيوب، ويُعرِّف المدينةَ بأنَّها موطنُ خـيرٍ وشرٍّ، وأنَّ الجـانِح الى الشرّ يلقى فيهـا هلاكَه. إنّ المؤلِّف مُصلحٌ وصاحـبُ التزام، والتزامُه هو من النوع البصير لا من النوع المُتعامي عن العيوب جهلًا أو قصدًا.
وموقفه الوطني قائم على الرَّحابة الدينية، فالقارئ لا يشتمُّ من رؤيته أيَّ نزوع الى الطائفية. قال يصف علاقةَ سعاد المسيحية وشادية المسلمة في مجموعتـه "أطياف من لبنان": "...توثَّـقت المودّات. وتـردّدت سعـاد... الى شادية... وتناسى الجميع أنّ ثمة دينًا فاصلًا. بل هم لم يجدوا في الدين غيرَ دعوة الى السماح والتصافي..."
(12).
وأَقْتَبِسُ من حوار بين سعاد وشادية: "قالت سعاد...: ما رأيُك في النصرانية، وأنت تدينين بالإسلام؟ فنطقتْ بالآية الرؤوم: ولتجدن أقربهم الى الذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى!" وأذاعت متحمّسةً: "الله للجميع. والأنبياء ألْسِنَةُ الله. ينطِقون بآياته ويَهدون الناسَ سبلَ الرشاد!"
(13).
وتطرَّق المؤلِّفُ الى الشأن الديني، واصفًا ايّاه في قرية مزرعة الشُّوف، وهو منها، قال: "... والمزرعة على شطرَيْن. في قمّتها الدروز، وفي صَدْرِها النصارى. غير أنها لم تكن ذاتَ لونَيْن في الدين. فالنصارى والدروز على مودّة..."
(14).
وإن ما نَزَل بلبنان من إِحَنٍ ومذابح طائفية سببُه الغرباء الذين تحكّموا في لبنان وفي طليعتهم الأتراك، قال يصف مجازر 1860: "وإذا لبنان يعتكر جوُّه... فالشِّقاق ثار فيهم، وعَرَفوا أنهم دروز ونصارى، وكانوا يجهلون انطباعَهم على فواصل الدين. ولم يكن من مصلحة الدُّوَل أن يسعد لبنان بوحدة بنيه... وغاصت الخناجرُ في الحناجر..."
(15).
وعِداء المؤلِّف لتركيا العثمانية سببه عِداؤها للبنان والعرب، فهي دولة دخيلة عنصرية يهمّها الأتراك، وتُبيح دماء اللبنانيين والعرب للسفّاكين والعُتاة الظالمين أمثال الجزّار، قال في "قهقهة الجزار": "... لا حِساب في الأرواح في البلدان الناطقة باللسان العربي. فالأهلون عَرَبٌ لا أتراك. ومعظمهم حاقدون على الخليفة التركي... فإذا أطاحتْهم الأسِنّةُ... فلن تكون استانبول إلاّ راضية..."
(16).
من الموت الى الخلود المُستمدّ من مَجْد القلم، الى جوهر الحياة القائم على الحب، الى الوطن مَوْئِلِ الحرية والعدْل والإنصاف، ينطلق أدبُ كرم





ملحم كرم زادًا للفكر، وركنًا للحق، وعالمًا من عوالم الإبداع.
(1) كرم ملحم كرم، صرخة الألم، بيروت، دار الضاد، 1980، ص 5.
(2) كرم ملحم كرم، صرخة الألم ، ص 68.
(3) كرم ملحم كرم، صرخة الألم، ص 68 – 69.
(4) المصدر نفسه، ص 69.
(5) كرم ملحم كرم، صرخة الألم، ص 82 – 83.
(6) كرم ملحم كرم، لُبنى ذات الطيوب، بيروت، دار الحياة، 1960، ص 104.
(7) كرم ملحم كرم، أُمُّ البنين، بيروت، مكتبة صادر، 1952، ص 313.
(8) كرم ملحم كرم، صرخة الألم، ص 86.
(9) كرم ملحم كرم، لُبنى ذات الطيوب، بيروت، دار الحياة، 1960، ص 257.
(10) كرم ملحم كرم، صرخة الألم، ص 153.
(11) كرم ملحم كرم، لُبنى ذات الطيوب، ص 109.
(12) كرم ملحم كرم، أطياف من لبنان، بيروت، دار صادر، ص 167.
(13) كرم ملحم كرم، المصدر نفسه، ص 169.
(14) كرم ملحم كرم، المصدر نفسه، ص 211.
(15) كرم ملحم كرم، أطياف من لبنان، الصفحتان 221 – 222.
(16) كرم ملحم كرم، قهقهة الجزّار، بيروت، دار صادر، 1951، ص 198.

1 commentaire:

  1. السلام عليكم الرجاء مدي برواية صرخة الألم فهي عزيزة جدا على قلبي قرأتها عند صديق مرة ولكني لم اجدها في المكتبات وانا ابحث عنها منذ 24 سنة

    RépondreSupprimer