vendredi 18 mars 2011

بين النهضة الأولى والنهضة الثانية

ألقيت في جامعة الروح القدس - الكسليك
27-3-2007

هوى الأدب العربي إلى أسفل دركاته مع بسط الأتراك سيطرتهم على البلاد العربية (وهذا ما تحقّق مع غزوات السلطان سليم الأول عام 1516)، ولم يكن غرض الأتراك الحفاظ على تراث العرب الحضاري، إنما كان همّهم تتريك العرب وانتزاع هويّتهم الأصيلة، فأزاحوا اللغة العربية، وأحلّوا التركية لغة رسميّة محلّها، كما أنّ التعليم لم يكن هاجسهم فقصدهم كان تعليم فئة محدودة من الأشخاص تعليمًا لا يتجاوز المرحلة الابتدائية بغية تأمين موظّفين ينفّذون موجبات إدارتهم، ما أدّى إلى انتشار الأميّة بين أبناء العربية حتى فاقت نسبتها التسعين بالمئة، وصار العلم محصورًا في بعض رجال الدين مسيحيين ومسلمين وقلّة من رجال الدنيا.
وانتشار الأميّة وتنحية العربية الفصحى أدّيا إلى شيوع العامية ونفاذها إلى الكتابة، فانحطّت الكتابة وصارت مزيجًا عجيبًا غريبًا من ركاكة الجمل ورصانة التعابير والإخلال بالقواعد إعرابًا وحركات، يُضاف إلى ذلك ضحالة الفكر بل قحطه وتحجّره، فلا قضايا جوهرية تطرح، ولا تطلُّع إلى قمة ولا غوص في أعماق.
ونتج من ذلك هوّة سحيقة بين العرب وتراثهم، بل انفصام عن التراث العربي العريق، وانقطاع عن ينابيع أدب ما قبل الإسلام وروافد الأدب الراشدي والأموي حتى أوجه على عهد بني العباس، فكأن العرب مقاطيع لا إرث لهم ولا أدب ولا تراث.
وحاول الأستاذ بطرس البستاني، معلّم الحكمة، رسم صورة لما آل إليه الوضع، على ما في ذلك من عسرٍ، فقال: "وطبيعي أن يسقط الشعر ويهوي من سمائه... فمن فصاحة آضت إلى العجمة والرطانة، ومن قرائح أرمغها الشحّ والجفاف، ومن أذهان أخلقها الخمول والجمود، ومن نفوس أضرعها الرعب والخنوع، ومن ملوك أزرت بالشعر والشعراء"
[1].
أما الشعراء فقد "... كان منهم طائفة كبيرة معظمها شويعرون ومتشاعرون... وكان التكلّف والتقليد أظهر خصائص هذا الشعر... وجعلوا المعاني خادمة للألفاظ... فاضطربت عباراتهم... وازدادت لغتهم ضعفًا وركاكة بازدياد انحطاطهم، حتى صار الشعر في غاية الإسفاف... وبات الشعراء يتلمّسون المحسنات البديعية ليستتروا بها.. فإذا هي بين أيديهم غثة باردة، كلّها معاظلة وحشو وتطويل، وإذا الشعر جثة ميت لا حياة فيه"
[2].
وكانت مصيبة النثر أفدح، فالسجع صار مبدًا تشبُّهًا، بالقوافي، وسترًا لعقم عن توليد المعاني، "وجاءت عباراتهم تتمطّى متثاقلة وتتثاءب... وأكثروا من الحشو والكلام الفارغ..." ، وكاد النثر يكون عاميًّا، ومصنفاتهم في معظمها جمعًا وتحشية وشرحًا
[3].
ودامت هذه الحال ثلاثة قرون ونيّف، إلى أن استفاق القوم على دوي مدافع نابليون في مصر (عام 1798)، ونواقيس الديار في شعاف لبنان
[4]، واختلف الباحثون في مَن كان الأسبق إلى النهوض ألبنان أم مصر؟ ومن دون انحياز، إنه لبنان، إذ بدأت فيه مقدّمات النهضة منذ القرن السادس عشر مع الأمير فخر الدين المعني الثاني وإيعاز روما بفتح المدارس في لبنان، وتوالي المرسَلين إليه، وقيام الجمعيات، وإصدار الصحف، وإنشاء المكتبات، بينما انتظرت مصر طلائع النهضة حتى أواخر القرن الثامن عشر.
وقامت النهضة الأدبية الصرف، شعرًا ونثرًا، على وصْل ما قطعه الأتراك بين العرب وتراثهم، وردْم الهوّة السحيقة بين واقع العرب آنذاك، وماضيهم قبل ذلك. ما أثار مشكلة التقليد والتجديد مقوِّمَين من مقوِّمات النهضة/ فهل تقليد القدامى نهضة؟ وهل سلبيات الانحطاط هي المقياس للحكم على ظاهرة بأنّها نهضوية، أو أن إيجابيات الظاهرة هي حدّ الحكم على أثر أدبي بأنه نهضوي؟ هل النهضة نهضة بالنسبة إلى الانحطاط، أم هي نهضة بالنسبة إلى ميزاتها وصفاتها وخصائصها الذاتية؟
وحار الباحثون في الإجابة عن مثل تلك التساؤلات، ومنهم بعض أساتذتي من ذوي الفضل عليّ، وكنت ألحظ الحيرة في أقوالهم في ما يتعلّق بناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق مثلًا. فناصيف اليازجي "... مِن أثبت أركان النهضة الحديثة في المحافظة على القديم..."، كما أنه "... إمام المحافظين المقتفين من أرباب النهضة..." (فؤاد البستاني، الروائع
[5]. إلى القول في مقاماته في مجمع البحرين: "هو أشهر كتب الشيخ ناصيف جرى فيه على أسلوب الحريري في مقاماته، وجمع فيه ما شاء له اطلاعه الواسع، وما أعانته به ذاكرته القوية... فهو من هذا النوع خير احتذاء للحريري... على أنه لا يمكن تسميته بالتأليف اللغوي... لأنّه أقرب إلى منتجات الذاكرة والتوسّع منه إلى آثار التأليف الفني"[6]. إلى القول في شعر ناصيف اليازجي: "... ونحن لو شئنا ذكر المطالع أو الأبيات التي يتنسّم فيها القارئ روح أبي الطيب لنقلنا ثلاثة أرباع شعر الشيخ. فإنّ تأثّره بالمتنبي بلغ منه مبلغًا تجاوز الأسلوب الشعري إلى المعاني وسبك الجمل، بل إلى القوافي والألفاظ أيضًا. حتى غدا اليازجي، في شعره، صورة مصغّرة للمتنبي..."[7]، إلى رأي الشاعر الفرنسي لامرتين في بعض أبيات ناصيف اليازجي: "... بعث إليّ بأبيات تشوبها الزخرفة والتكلّف، ويشينها التلاعب اللفظي، وتلك صفات اللغات والمدنيات الشائخة..."[8]. فما اعتبره باحثونا نهضة انتمى في رأي لامرتين إلى اللغات والمدنيات الهرمة.
ونقع في موقف بعض الباحثين من أحمد فارس الشدياق على ما وقعنا عليه بالنسبة إلى اليازجي، فالشدياق نهضوي، ولكنه "... سبّاب شتّام حين يهجو..."
[9]. "وآخر ما نقوله في شعره أنه كان جاهليًّا في إغرابه، عباسيًّا في مدحه ومجونه، شاميًّا في تصوّره وتفكيره... يدلّ نظمه على قلّة تنقيح، وهو لو نقح لنفض عن شعره هذه اللزقات الخردلية التي لا تخلو منها قصيدة، فكأنه عدوّ للموسيقى الشعرية..."[10]. "بكى الطلول كما بكوا"، وقال الغزل الكاذب مثلهم..."[11]. أما في نثره "... فرأيناه تارة يسجع، وطورًا يدع السجع هازئًا. ثم يعود إلى الرِجل الخشبية... فكتب أربع مقامات... فطمست روحَ المعلّم معالمُ التقليد..."[12].
وينهي مارون عبود قائلاً: "إنّ النهضة الحديثة، في عُرف بعض مَن يتحدّثون عن الأدب، هي أن يكون هناك ناس قالوا شعرًا جاهلي العبارة... لا، يا أخي... ولكن النهضة التي نعنيها إنّما تكون في الخلق والإبداع، في اتِّجاه جديد متّصل بالقديم ولكنه غيره"
[13].
إزاء هذا التردّد في تحديد مفهوم النهضة، بل هذا الضياع بين التقليد والتجديد، أطلقتُ على كتابي الصادر في العام 1985 عنوان "في أدب النهضة الثانية" استنادًا إلى مبدإ اعتمدته منذ منتصف الستينات، ومفاده أنّ النهضة الأولى قامت على ربط الأدب بالتراث العربي القديم، في حين لجأت النهضة الثانية إلى ربطه بالحياة المعاصرة وقضايا الإنسان بعامة"
[14].
ثم حدّدتُ في كتابٌ ثانٍ (التكوين الأدبي)
[15] مقوّمات النهضة الثانية القائمة على تحطيم تقليد بلاغة الأقدمين، و"... الخروج بآدابنا من دور التقليد إلى دور الابتكار في جميل الأساليب والمعاني[16]، وربط الأدب بالحياة وهموم العصر، ورفض التقليد لأنه يربط الأدب بحياة سابقة وعصر سلف، وإنّ ما يبثّه الأديب في أدبه هو تأثير الحياة في نفسه ووجدانه، وهو بذلك ينقل إلى الآخرين تجربته الخاصة به في مجتمعٍ من المجتمعات. إنّه ينقل شؤون العالم الخارجي من خلال عالمه الداخلي الباطني، وهو يميّز الأمور العابرة من القضايا الجوهرية، فهناك ظواهر لا يعيرها الأديب التفاتًا إذ لا قيمة لها، وربط الأدب بالحياة يعني أن يكون الجوهر الإلهي الحيّ المتجسِّد في الإنسان محورَ الأدب، كما يعني تفسير معنى الحياة وزيادة ثروة المتلقّي الروحية والعاطفية والجمالية بفرادته وإبداعه وطابعه الشخصي المميَّز. ولو أردنا تحديد بداية أدب النهضة الثانية لقلنا أنها بدأت مع أمين الريحاني إذ نقل عقيدة التطوّر من نطاق العِلم إلى ميدان الأدب، واستمرّت مع جبران ممثَّلَةً بنظرية النشوء والارتقاء، وانطلقت مع نعيْمه في التوق إلى الخلاص ونِشدان الكمال.
[1] بطرس البستاني، أدباء العرب، الجزء الثالث، دار نظير عبود، لبنان، لا ت، ص 213.
[2] بطرس البستاني، أدباء العرب، الجزء الثالث، الصفحتان 214-215.
[3] المرجع نفسه، الصفحتان 218-219.
[4] بطرس البستاني، أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث، ص 211.
[5] فؤاد افرام البستاني، الشيخ ناصيف اليازجي، الروائع 21، دار المشرق، بيروت، 1950، ص 3.
[6] فؤاد افرام البستاني، الشيخ ناصيف اليازجي، ص 19.
[7] المصدر نفسه، ص 26.
[8] المصدر نفسه، ص 2.
[9] مارون عبود، صقر لبنان، دار مارون عبود، بيروت، 1975، ص 138
[10] مارون عبود، صقر لبنان ، الصفحتان 133-134.
[11] المصدر نفسه، ص 130.
[12] المصدر نفسه، ص 167-168.
[13] المصدر نفسه، الصفحتان 73-74.
[14] متري سليم بولس، في أدب النهضة الثانية، منشورات Agate، جونية، 1985، ص 9.
[15] متري سليم بولس، التكوين الادبي، منشورات Agate، 1991، ص 9.
[16] ميخائيل نعيمه عن متري سليم بولس، التكوين الأدبي، ص 3.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire