mardi 22 décembre 2009

jeudi 3 décembre 2009

ميخائيل نعيمه في أميركا[1]

حياة الإنسان استمرار لا انقطاع فيه، فماضيه كامن في نفسه، وحاضره إيذان بغده، وغده تحقيق لما يراوده من أشواق وآمال. عمر الإنسان يومان، يوم يكون به، ويوم يصير إليه، وبينهما دوام وصيرورة في وحدة ذات. وما المراحل التي يحددها بين زمن وزمن سوى محطات في رحلة واحدة.

في عام 1911 عندما قرّر ميخائيل نعيمه الذهاب إلى أميركا، حمل معه بسكنتا والناصرة وپولتاڤا، بل كانت نفسه ملأى بلبنان وفلسطين وروسيا، لم ينطلق من فراغ، لم يطوِ كتابًا ليفتح آخر، بل أضاف صفحات جددًا إلى كتاب حياته.

وحقيقة الأمر هي أن ميخائيل نعيمه لم ينو السفر إلى أميركا في البدء، بل كان قد عقد العزم على الذهاب إلى فرنسا ليلتحق بجامعة السوربون في باريس بغية دراسة القانون، فأكب على دراسة اللغة الفرنسية التي كان قد ألمّ ببعض مبادئها في أثناء دراسته الابتدائية، وأخذ يُعد العدّة لمواجهة نفقات السفر، وشؤون الإقامة في باريس والالتحاق بجامعتها الكبرى. إلاّ أن وجود أخويه أديب وهكيل مهاجرَيْن مقيمَيْن في أميركا جعله يعدل عن الذهاب إلى فرنسا فيولي وجهه شطر الولايات المتحدة الأميركية. إذًا، لم يكن سفر ميخائيل نعيمة إلى أميركا قصدًا أول، كما أن الهجرة بغية الارتزاق والكسب المادي لم تكن حافزه، كان غرضه الوحيد من سفره طلب العلم.

وأولى الصعوبات التي واجهها نعيمه في القارة الجديدة مردّها إلى جهله المطبق للغة الإنكليزية. كان يتقن العربية والروسية وملمًّا بالفرنسية، إلا أنه لم يكن يعرف من الإنكليزية شيئًا ولو يسيرًا، فعكف طوال ثمانية أشهر على دراسة الإنكليزية ولم يربأ بنفسه عن الالتحاق بمدرسة ابتدائية يصغي إلى صغار التلاميذ الأميركيين كيف ينطقون، ويخضع للامتحانات التي لها يخضعون، علمًا بأنه كان يحمل من روسيا شهادة تفوق شهادة الفلسفة بقليل، أما رأيه فكان التالي: كنت بالعربية إنسانًا، وبالروسية إنسانًا، وبالفرنسية بعض إنسان، وها أنا بالإنكليزية إنسان رابع.

وبداية نعيمه بدراسة الإنكليزية، فيها الكثير من الأمور المضحكة والمؤلمة، ولكنها في الحالتين تنبئ بقدرة على مواجهة الصعاب وإرادة على تخطيها وتصميم على بلوغ الهدف. شخصية نعيمه الطالب توضح أنه كان منذ ذلك الحين يدرك أن الحياة موقف وهدف وطريق إلى الهدف.

والتحق ميخائيل نعيمه بجامعة واشنطن في مدينة سياتل، واختار أن يُعد إجازتين معًا، واحدة في القانون وثانية في الأدب، وكانت دراسته كلها بالانكليزية، ولم يكتفِ بمقررات الجامعة بل راح ينهل بنهم روائع الأدب الإنكليزي مثلما اكتنز من قبل روائع الأدب الروسي حين كان طالبًا في روسيا.

ويمكن القول إن نعيمه، قبل ذهابه إلى أميركا أواخر العام 1911 كان قد تزوّد بزاد روحي وفكري وأدبي واجتماعي جعله متوحدًا فكرًا وروحًا، ناقماً على المدنية المادية والآلية في المجتمعات الغربية الحديثة، طارحًا من الأسئلة ما لا يطرحه إلا كل ذي حسّ رهيف، وفكر يقظ وروح تواق إلى التسامي، وضمير يطلب العدل. كان يسأل: "عن الحياة ومعناها، والموت وما بعده، وعن الكون العجيب... والغاية من وجوده... ومن أين الفكر؟ ولماذا؟...".

كان يسأل عن تفاوت الناس "... من حيث مقدرتهم على التفكير... ]فـ[ أولئك أفكارهم في بطونهم وظهورهم وجيوبهم، وهؤلاء جيوبهم وظهورهم في أفكارهم"[2].

ولماذا تفاوتهم من حيث يقظة الضمير، وشعورهم بالحلال والحرام، وطول أعمارهم وقصرها؟ وما القدرة التي تفصِّل الأعمار؟

كان يسأل: ما نظام الكون؟ ومن أين الكائنات؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ وما حقيقة الله؟ ولماذا تصدر الكائنات عنه لتعود إليه؟ وما الحكمة من ذلك؟ وهذه الأسئلة لقيت الإجابات عنها يوم كان طالبًا في بدء سنته الثالثة في جامعة واشنطن في مدينة سياتل.

حدث ذلك بفضل صديق اسكتلندي ينتمي إلى الجمعية التيوسوفية، وهي جمعية تؤمن بالتقمّص، أي بوحدة الحياة وتعدّد الأعمار، وتأخذ بالثواب والعقاب، أي بأن الإنسان يحصد مثلما يزرع، وإن التفاوت بين الناس مرده إلى أعمارهم السابقة، فهم لا يولدون صفحات بيضًًا لم يخط عليها شيء، كما أن ما يلقونه في حياتهم من صحة ومرض، وألم وسعادة هو رَجْع لما أطلقوه في الحياة من صوت، وأعمارهم تتعدّد وتتوالى فسحات من أجل تكامل المعرفة وتبيّن إرادة النظام الذي لا يفلت من ضبطه أي فكرة، أي عمل، وأي قول، وذلك بغية إدراك الكمال المؤدي إلى التحرّر والخلاص.

وعلى ضوء هذه المباد أخذ ميخائيل نعيمه يفسّر أحداث حياته، ويستبطن ظواهر الكون والكائنات من حوله، وخير ما يشرح حاله في تلك المرحلة قوله مستنتجًا: "خلاصة القول... إن عقيدة تكرر الاختبار بتكرار الاعمار بغية المعرفة الكاملة والحرية المثلى باتت الركيزة الكبرى التي تقوم عليها فلسفة حياتي... فالحياة أكثر من مهزلة تبتدئ في المهد وتنتهي في اللحد لتعود فتتجدد إما في غبطة أبدية، أو في عذاب أبدي، أو لتمّحي بالموت وكأنها لم تكن، والإنسان أكثر من ألعوبة في يد القدر حتى وفي يد الله..."[3].

وعكف نعيمه على دراسة التعاليم "الباطنية" منذ أقدم العصور، والديانات السماوية وغير السماوية، والكتابة فيها، وهذا الرافد الفكري الجديد الذي اكتشفه نعيمه في أميركا هندي الأصول، وقد أضيف إلى الرافد الروسي الذي سبق أن تعلّمه نعيمه من كتابات تولستوي، وهو قائم على كراهية الحرب وويلاتها، والنزوع إلى السلم والمحبة، وعدم مقاومة الشر بالشر، والزهد في أمجاد الدنيا والاقتداء بالمسيح، وتحرير الإنسان من العبودية، وتطبيق المبادئ الخلقية في الحياة تطبيقًا عمليًّا.

وإلى جانب تعلّم الإنكليزية، والتحصيل الجامعي، والتثقف بروائع الأدب الإنكليزي، وتكوين العقيدة القائمة على تعاليم تولستوي والفكر الهندي التقمّصي، ثمة الكفاح المادي من أجل إعالة الذات، وتخفيف الأعباء عن شقيقيه المغتربَيْن ومساعدة الأهل في لبنان، ولذا التحق نعيمة موظفًا بالقنصلية الروسية في سياتل بصفة سكرتير معاون مسؤول عن المراسلات باللغة الإنكليزية، وهذا ما أتاح له أن يعمل في جو روسي صرف ويؤمّن لنفسه ولعائلته في لبنان دخلا ماليًّا ينهض بمستواه ومستواها المعيشي[4].

وبعد تخرّجه من الجامعة عام 1916 توظّف ميخائيل في شركة كانت تصنع القنابل للمدفعية الروسية، وعلى الرغم من نفوره من هكذا شركة أمّن لنفسه دخلاً وقاه الحاجة والبحث عن عمل أو عرض نفسه على الناس كما اضطر إلى أن يفعل لاحقاً.

وفي أثناء الحرب العالمية الأولى جُند ميخائيل نعيمه في الجيش الأميركي، وذهب إلى أوروپا ليحارب على الجبهة الفرنسية الألمانية، وكان على كراهيته الحرب يُخفف من وطأتها عليه بأنه يشارك فيها ليحارب تركيا عدوة وطنه الأول لبنان، ووطنه الثاني روسيا.

وبالعودة إلى مذكراته في أثناء خدمته في الجندية نتبيّن أن نزعة نعيمه إلى اليسار المتطرّف كانت قد تأصلت في نفسه مع أنه جهد كل الجهد ليكتمها عن رفاقه الجنود، فلا يدري بها أحد. وبذلك لم تبدل إقامة ميخائيل نعيمه في أميركا من موقفه الطبقي. فقد كان يميل إلى اليسار يوم كان في روسيا، وظل كذلك بعد إقامته في أميركا ثمانية أعوام وانضوائه في جيشها.

وكان نعيمه يكره الحرب قبل خوض غمارها، وازداد كرهًا لها بعدما خبرها، فهي تقتل الروح قبل قتلها الجسد، وتلهي الإنسان عن عدو في داخله بمحاربة من ليس عدوًّا في الخارج، وتبث الأحقاد بين الشعوب، وتدمّر في لحظة ما أنفق الإنسان اعمارًا في تعميره، ويكفي أن نذكر ما جاء في قصيدته "أخي" لندرك عمق تعلّقه بالمسالمة وشدّة نفوره من الحرب، قال:

"أخي، ان ضجّ بعد الحرب غربي بأعمالهْ

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا

بل اركع صامتًا مثلي بقلب خاشع دام

لنبكي حظ موتانا"[5]

بعد إعلان الهدنة التحق نعيمه بجامعة "رين" الفرنسية، وفي آذار من العام 1919 قفل راجعًا إلى أميركا.

وشهد العام 1920 أهم حدث في تاريخ الأدب المهجري بل في تاريخ الأدب العربي المعاصر، وهو تأسيس الرابطة القلمية في مدينة نيويورك، وكان لنعيمه كأمين سرّها دور إداري في تنظيم شؤونها وبسط علاقاتها، وقد أبدى حنكة في الإدارة حتى قال فيه عبد المسيح حداد، أحد أعضاء الرابطة المؤسسين: "لو لم يكن أديبًا لكان قائدًا عسكريًّا". أما دوره كناقد فقد سبق تأسيس الرابطة القلمية إذ بدأ منذ العام 1913 حين نشر مقالته النقدية "فجر الأمل بعد ليل اليأس" متناولا فيها بالنقد رواية جبران "الأجنحة المتكسرة".

وبالنظر في نتاج نعيمه الأدبي في أميركا، نراه ينتسب إلى الأدب الواقعي النقدي في المسرح (الآباء والبنون) وفي الأقصوصة (كان ما كان) وفي المقالة بنوعيها: الموضوعي (الغربال) والذاتي (المراحل). وفي الرواية ينتمي أدبه إلى الخارق (مذكرات الأرقش)، أما شعره العربي والانكليزي فيتسم بالغنائية التأملية، والطابع العام الذي ماز أدبه في المرحلة الأميركية هو: جمالية الشكل، وصدق الشعور، وعمق التفكير حتى في شعره الغزلي. ودوره الأدبي في الرابطة تركز على نقل الشاعرين إيليا أبو ماضي ورشيد أيوب من التقليد إلى التجديد، أما نسيب عريضه وجبران فكانا من المجددين بطبعهما وثقافتهما وإبداعهما.

وأقف عند شعر نعيمه في المرأة، علماً بأنه أحب في أميركا سيدتين على التوالي أطلق عليهما اسمين مستعارين هما "بيلا" و"نيونيا"، وشعره في "بيلا" يختلف عن الشعر الغزلي الشائع في جمال المرأة وأنوثتها، فالمرأة والرجل هما جناحا البشرية، وأحدهما نصف الآخر، ولوجودهما دلالة كونية بل إلهية:

"أنا السر الذي استترا

بروحك منذ أن خطرا

ببال الكائن الأعلى

خيال العالم الأدنى

فكون من ثرى بشرا"

أو قوله:

"معًا كنا من الأزل

معًا نبقى إلى الأبد!"

وأخلص إلى قوله:

"أسفي عليك فلا الذهابْ

سهل عليك ولا الايابْ

ستظل تخبط في ضبابْ

حتى ينير لك الطريقْ

قلب يكون لقلبك الواهي رفيق"[6]

وعانى نعيمه في أميركا من ضيق ذات اليد وعدم الاستقرار المادي، وقام بأعمال لم تنسجم مع ميوله الإبداعية، وعبّر عن ذلك بطريقة فيها من الألم ما يكاد يبلغ حدّ الفاجعة، قال: يا- هو! يا ناس! يا بشر! يا أهل الله! ههنا إنسان يريد أن يعيش بشرف – أن يأكل خبزه بعرق جبينه... وهو لا يسكر، ولا يقامر، ولا يسرق، ولا يقتل، ولا ينافق... ولكنكم حرّمتم العيش عليه إلا إذا كان في جيبه فلوس؛ ولكنكم خلقتم الفلس وجعلتموه معيارًا لصفات الناس ومؤهلاتهم... ولأن هذا الإنسان لا يملك الفلوس وتملكونها أنتم فهو يعرض نفسه عليكم..."[7]، وأطلق على نفسه لقب "كثير الكارات"، فعمل في متجر لبيع قمصان نوم للسيدات وفساتين للصغار، كما عمل في بيع الأطيان، والترويج لدائرة المعارف البريطانية لقاء عمولة، ومديرًا لفرع المطرزات الفيلبينية في أحد المتاجر، ثم قرّر عام 1932 أن يحمل حقائبه وحنينه ويعود إلى لبنان وفي جيبه خمس مئة دولار من ثروة أميركا بعد بقائه فيها عشرين عامًا.

أما موقفه العام من المجتمع الأميركي فقد أجمله في احدى مقابلاته الصحافية إذ سأﻪﺘﻠ:

"... ما أول شيء لفتك في البلاد الأميركية؟"

- ]فقال[ إنه المدى الواسع الذي يكاد يكون بغير نهاية. مدى للعين والفكر والخيال والصور. سهول وجبال وصحارى. مدن ومزارع وقرى. وغابات وبحيرات وأنهار. إن أميركا وروسيا متشابهتان من حيث امتداد رقعة الأرض.

- ]وسألته[ والسكان؟

- ]فأجاب[ - عرفت خلال إقامتي الطويلة في أميركا كل أصناف الأميركيين من رجال أعمال، ورجال دين، ورجال حرب، ورجال أدب وفن، ورجال سياسة وعلم، ومن عمّال وفلاحين، ومن بيض وسود. إنهم، إجمالاً، إلى الخير أميل منهم إلى الشرّ.. إنهم، من حيث النشاط... لا يتقدّمهم أي شعب من شعوب الأرض... إن الأميركيين، على ما فيهم من عناصر إنسانية طيبة، قوم عمليون قلما تشغلهم النظريات المجرّدة عن الكسب والمتعة المادية"[8].

وأختم: إن ميخائيل نعيمه، إلى جنسيته اللبنانية كان يحمل الجنسية الأميركية، وظلت الدولة الأميركية ترسل إليه التعويضات عن خدمته في الجيش الأميركي وعمله فيها طوال عشرين عامًا حتى اللحظة الأخيرة من عمره، كما أن جامعة واشنطن منحته الدكتوراه الفخرية تقديرًا منها لنتاجه الأدبي ولكونه أحد طلابها الميامين.

متري سليم بولس

14/5/2009




1. ألقيت في جامعة AUST بيروت، 14/5/2009

2. بولس، ميخائيل نعيمه وروسيا، الصفحة 64.

3. المرجع نفسه، الصفحة 65.

4. بولس، المرجع نفسه، الصفحة 56.

5. نعيمه، همس الجفون، الصفحة 14.

6. المصدر نفسه، الصفحات: 102، 107، 95.

7. نعيمه، سبعون، المجموعة الكاملة، المجلد الأول، الصفحة 421.

8. بولس، ميخائيل نعيمه وروسيا، الصفحتان 183-184.



تجربة ميخائيل نعيمه الشعرية

في ديوان

"همس الجفون"

بسكنتا 17-10-2009


ديوان "همس الجفون" حكاية قلب، وتأملات فكر، وتجربة إيمان، وموقف من المجتمع. وأبدأ بقصيدته الأولى تاريخيًّا، وهي قصيدة "النهر المتجمد"، وقد نظمها ميخائيل نعيمه بالروسية في عام 1910 يوم كان طالبًا في سِمنار پولتاڤا ثم ترجمها بنفسه إلى العربية في عام 1917 بعد تخرّجه من جامعة واشنطن في مدينة سياتـل.

وإذا أمعنّا في الأبيات التي يقابل فيها الشاعر بين قلبه والنهر استنتجنا أنه مرّ بمرحلتين: أولى كان فيها فرحَ القلب، طلقَ الآمال، وثانية صار فيها سئمًا لا يُشارك بائسًا في بؤسه ولا فرحًا في فرحه، قال مخاطبًا النهر:

"قد كان لي، يا نهر، قلب ضاحك مثـل المروجْ

حر كقلبك فيه أهواء وآمال تموجْ

قد كان يضحي غير ما يمسي ولا يشكو المللْ

واليوم قد جمدت كوجهك فيه أمواج الأملْ...

نبذته ضوضاء الحياة فمال عنها وانفردْ

وغدا جمادًا لا يحن ولا يميل إلى أحد"[1].

وألِفـْتُ إلى حالة القلب الأولى الضاحكة الحرّة، وإلى حالته الثانية وقد جمَد بل غدا جمادًا لا يحن ولا يميل...، ويلوح لي أن للقصيدة ظاهرًا هو بلد ونهر، وباطنـًا هو قلب سال عاطفة وتدفق ثم تجمد ولا رجاء له بانطلاق واندفاق، فهذه قصيدة "القلب المتجمد" قلب الشاعر ميخائيل نعيمه الشاب إذ كان في التاسعة والعشرين من العمر.

وأرى أن الترجمة العربية مهمة بالنسبة إلى الناظر في تجربة نعيمه العاطفية لأنه في نهاية الترجمة العربية يشير إلى قلبه عوضًا من مخاطبته روسيا كما فعل في القصيدة المنظومة بالروسية، وإشارته إلى قلبه تنم على حالة يأس، في حين تعبّر مخاطبته روسيا عن نزعة تفاؤل. روسيا مكبلة وسوف تفك قيودها، وقلب نعيمه مقيّد ولن يُفك له عِقال، قال مخاطبًا نهر "صولا" المتجمد وذاكرًا قلبَه:

"يا نهر ذا قلبي، أراه، كما أراك، مكبلا

والفرق أنك سوف تنشط من عِقالك، وهو... لا"[2].

إذًا، روسيا مكبلة، ونهر "صولا" متجمّد ولكنهما سيتحرران ويجريان، أما قلب الشاعر فمقيد راكد وسيظل كذلك.

وتلت تجربةَ القلب تجربةُ الفكر، فبعدما أسكت نعيمه خلجات قلبه أو كف قلبُه نفسه عن المشاعر، توثب الفكر هاديًا ومرشدًا، وعبّر نعيمه عن ذلك بقوله:

"فقلت لفكرتي اتقدي

وقلت لنفسي اتئدي

فنور الفكر يهدينا

إذا ما قلبُنا جمدا

ونورًا فيه لم نجدِ"[3].

ويظهر أن تعويل نعيمه على فكره هو موقف إرادي، اختاره عن قرار واقتناع، قال في الصدد هذا:

"جعلت الفكر حاميها

لأن الفكر بانيها

ولم أترك لقلب كان

ميتًا بين أضلاعي

ولا مقصورة فيها"[4].

واعمل نعيمه فكره في الدنيا سعيًا إلى جلاء أسرارها وكشف بواطنها وفهم ظواهرها فهمًا أعمق:

"ورحت أجوب ما استترا

من الدنيا وما ظهرا...

فأطرح كل ما حادا

عن المقياس أو زادا...

ورحت أقيس أيامي

وأعمالي وأحلامي

وما حولي ومن حولي

وما تحتي وما فوقي

بأفكاري وأوهامي...

كذا قسنا ليالينا

وحاضرنا وماضينا

أنا والفكر، يا قلبي

لقد شدنا علالينا"[5].

ونلحظ أن نعيمه يشدد على المقاييس بقوله: اقيس – المقياس – قسنا، ويشدد على دور الفكر بقوله: نور الفكر – بأفكاري – أنا والفكر، وكذلك يفعل في أبيات أخرى... إلاّ أننا نومئ إلى ربطه الأفكار بالأوهام حين قال: بأفكاري وأوهامي كما خاطب قلبه بحنو: أنا والفكر، يا قلبي، وفي هذين إيذان بشكه في قدرة الفكر على بلوغ اليقين وانعطاف على القلب بعد انعطاف عنه، وما عبّرعنه نعيمه خِفرًا في الأبيات السابقة، سفر عنه جهرًا في أبيات لاحقة، قال:

" ففي داخلي ضدان: قلب مسلِّم

وفكر عنيد بالتساؤل أضناني

توهم أن الكون سرٌّ وأنه

يُنال ببحث أو يُـباح ببرهانِ

فراح يجوب الأرض والجو والسما

يسائل عن قاص ويبحث عن دانِ

وكنت قصيدًا قبل ذلك كاملاً

فضعضع ما بي من معانٍ وأوزانِ"[6].

قلب جمد، وفكر همد، وهل يمكن إنسانًا شاعرًا شابًّا له رهافة ميخائيل وثقافة ميخائيل، وقد بلغ من العمر الثالثة والثلاثين، أن يجود بالأدب بل أن يُوجَد في الدنيا جافَّ القلب مكبوت الفكر، والمرء بأكبريه قلبه وفكره؟ فالقلب الذي حسبه نعيمه ميتـًا نبض، والفكر الذي ظنه تهاوى نهض، إلا أنهما اتخذا دورين اختلفا عما سبق. إن القلب موطن الأشواق بل هو نبضة الخالق في المخلوق، والفكر ليس قياسًا وبرهانـًا بل ليس عقلاً يجرد من المادة قوانين المحسوسات، إنه إشعاعُ وحي ينزل من المفكر الأعظم ليسعف الإنسان على تفسير معاني أشواق النفس ورموز الكائنات.

والقلب هذا ليس وليد عصره، فمشاعره ترقى إلى عصور سابقة تطول الأزل وتمتد إلى عصور لاحقة تبلغ الأبد:

"فهاتي يدًا، وهاك يدي

على رغد، على نكدِ

وقولي للأولى جهلوا

معًا كنا من الأزلِ

معًا نبقى إلى الأبدِ"[7].

والأزلي هو الله والأبدي هو الله، والإنسان صورة رسمها خيال الله قبل أن تتجسّد إنسانًا:

"أنا السر الذي استترا

بروحكِ منذ ما خطرا

ببال الكائن الأعلى

خيالُ العالَم الأدنى

فصور من ثرى بشرا"[8].

ولكون أشواق القلب من مصدر إلهي فإن لها الحكم، إنها التابع والفكر هو مفسّر معانيها:

"اقلبي احكم ولا ترهب

فما لي منك من مهرب

فأنت اليوم سلطاني

وأنت اليوم رباني

أدرني كيفما ترغب...

أفاق القلب، وا طربي

أفاق القلب، وا حربي

فنم يا فكر، أو فاخضع

لقلب كان من حجر

فصار اليوم من لهبِ"[9].

وبذلك بلغ نعيمه المرحلة الثالثة في تجربته الشعرية: قلب يشعر ذو أشواق لا تعرف حدًّا، وفكر في خدمة القلب يفسر معنى أشواقه ويبين أهداف اختلاجاتها، فإيمان بأن الإنسان ليس عرضًا في الكون طارئًا، بل هو كيان براه الله من روحه، وبما أن الخليقة هي صورة الخالق فإن روح الإنسان شأن روح الله باريها أزلية أبدية:

"ايه نفسي! أنتِ لحن فيّ قد رنّ صداه

وقعتكِ يدُ فنانِ خفي لا أراه

أنت ريح ونسيم، أنت موج، أنت بحر،

أنت برق، أنت رعد، أنت ليل، أنت فجر

أنت فيض من إله"[10].

ويثنّي:

"أخالقي رحماكا بما برت يداكا!

إن لم أكن صداكا فصوت من أنا؟...

فابدل لظى نيراني بجمرة الإيمانِ

واجعل من الحنانِ للقلب مرهما

إذ ذاك بالتهليلِ أسير في سبيلي

وخالقي دليلي، ووجهتي السما!"[11].

ويعلق نعيمه نفسه على هذه الأبيات قائلاً:

"... فحينـًا أسأل نفسي: "من أنت يا نفسي؟" فأراها في كل شيء وأرى كل شيء فيها. وأنتهي إلى أنها والله واحد، ولكنني لا أجرؤ أن أجاهر بذلك. فأكتفي بالقول إن نفسي "جزء من إله" أو "فيض من إله"[12].

ومن يعتقد أن نفْسه قبس من نور الله، وأنها والله واحد، يسعَ إلى إدراك ما بثـّه الله في نفسه ان هو عكف عليها يستنطقها ويسألها أو يسائلها، إذًا، ليس الإنسان معزولاً في الكون، واكبابه على نفسه هو كشف لدني، بل ان سرّ الخالق كامن في خليقته، وللإنسان أن ينظر في نفسه أولاً:

"الناس في أسرارها حائرون

والسر، لو يدرون، فيهم مقيم"[13].

"... لكنني مصغ لنفسي، ففي

نفسي أوتار وفيها نشيد..."[14].

"وسنبقى نفحص الآثار من هذا وذاكْ

ريثما ندرك أن الدرب فينا لا هناكْ"[15].

إذًا، ثمة اتجاه أول إلى داخل الإنسان ليكتشف في النفس ما انطوى عليه كيانه من نزوع إلهي، واتجاه ثان إلى الكائنات كلها ليرى الله فيها:

"كحل اللهم عيني

بشعاع من ضياكْ

كي تراكْ

في جميع الخلق...

وافتح اللهم اذني

كي تعي دومًا نداكْ

من علاكْ

في ثغاء الشاة، في زأر الأسود...

في خرير الماء، في قصف الرعود

في هدير البحر، في زحف الغمام...

في بكا الأطفال، في ضحك الكهول

في ابتهالات العراة الجائعين...

في صلاة الملك والعبد السجين"[16].

الله، إذًا، كامن في الإنسان الذي يحسب أنه جرم صغير وفيه انطوى العالم الأكبر، وحالٌّ في الكون الذي يخاله الإنسان مادة متعددة الأشكال والألوان:

"مظاهرها في الكون تبدو لناظر

كثيرة أشكال عديدة ألوانِ

واقنومها باق من البدء واحدًا

تجلت بشهب أم تجلت بديدانِ"[17].

فحيث الخليقة يكون الخالق، فالكون بما فيه ومن فيه تواجُدٌ وليس وجودًا فحسب، ومن أدرك هذه الحقيقة صار الله محورَ حياته بل هو حياته ومحجته، منك وا وإليك وا، أسعى إليك عبر الثنائيات من خير وشر إلى خير أحد إذ أن الله خير محض، وعبر المحبة والكراهية إلى المحبة الصرف إذ أن الله محبة خالصة، وعبر الصدق والكذب إلى الصدق الصراح والحق والحياة والموت:

"وليكن لي يا إلهي

من لساني شاهدان

صادقان

إن أفه بالحق فليشهد معي

أو أفه بالبطل فليشهد علي...

واجعل اللهم قلبي

واحة تسقي القريبْ

والغريبْ

ماؤها الايمان، أما غرسُها

فالرجا والحب والصبر الطويل

جوها الاخلاص، أما شمسها

فالوفا والصدق والحلم الجميل"[18].

ومن عرف محجته سار إليها آمنًا مطمئنًّا، مغلبًا في ثنائية الخير والشر المرحلية أحديةَ الخير السرمدي، ناظرًا من خلال التشاؤم والتفاؤل المثنويين إلى التفاؤل الأحدي، ومن خلال الموت إلى دوام الحياة، فالله حاديه، وصوت الله فيه يناديه:

"إذا سماؤك يومًا تحجبت بالغيوم

اغمض جفونك تبصر خلف الغيوم نجوم...

وعندما الموت يدنو واللحد يفغر فاه

اغمض جفونك تبصر في اللحد مهد الحياه"[19].

ومن يتخطَّ الثنائية صراعًا، ويرْنُ إلى الاحدية حلاًّ، فالأرض واحدة، والبشرية واحدة، والكون واحد، والله واحد وهو المحجة، يشعر بالطمأنينة وهي حالة روحية مستقرة فوق الصراع، ومن قصد مجد الله هانت لديه أمجاد الدنيا:

"سقف بيتي حديد ركني بيتي حجر...

باب قلبي حصين من صنوف الكدر...

وحليفي القضاء ورفيقي القدر..."[20].

وذلك لأن القضاء العادل لا يحكم إلا بما قضاه الإنسان لنفسه، والقدر لا يفرض إلا ما قدره الإنسان لنفسه، فكما يزرع الإنسان يحصد، وكما يُغني يغنى له:

"يا روح غني ولا تنوحي

فالعمر لحن إذ تسمعينه

تعين منه ما تنشدينه

والعيش حقل تستثمرينه

يعطيكِ مما تستودعينه"[21].

ونصل إلى المنحى الرابع من تجربة نعيمه، ويتعلق بموقفه من المجتمع، فالساعي إلى مجد الله يزهد في أمجاد الدنيا، فهي تبعده عن هدفه، وتستلب إرادته، وتقيده بتقاليد المجتمع، وتنأى به عن ربه، فعليه أن يتحرر منها:

"غدًا أرد هبات الناس للناسِ

وعن غناهم استغني بإفلاسي

وأسترد رهونا لي بذمتهم

فقد رهنت لهم فكري وإحساسي...

وألبس العري درعًا لا تحطمه

أيدي الملائك أو أيدي الشياطين

فلا تروعني نار الجحيم ولا

مجالس الحُور في الفردوس تغريني..."[22].

انصراف كلي إلى الله، ثواب يطمئن، وعقاب يعلِّم، وطاعة عالمة، وعود إلى الله وخلاص:

"قل اطعنا في كل ما قد فعلنا

صوت داع إلى الوجود دعانا

فجنينا من الحياة ولكن

قد أعدنا إلى الحياة جنانا...

ومضينا ولا ندامة فينا

وتركنا كؤوسنا لسوانا..."[23].

من تجربة القلب، إلى تجربة الفكر، إلى تجربة الإيمان وما يصحبها من زهد وتطلعات، إلى موقف رافض للبنى الاجتماعية المخالفة لمشيئة الله ونظامه القائم على المحبة وان الانسان أعلى قيمة إلهية على الأرض وأرقى قبس روحاني من السماء، فلا يثمن بمال، ولا يذل ولا يستذل، مصدره الله ومآبه الله وهويته أن يعرف إرادة الله.

متري سليم بولس

بسكنتا في 17-10-2009



1. ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 12 – 13.

2. المصدر نفسه، ص 13.

3. المصدر نفسه، ص 59.

4. المصدر نفسه، ص 61.

5. المصدر نفسه، ص 59 – 60.

6. المصدر نفسه، ص 84 – 85.

7. المصدر نفسه، ص 107.

8. المصدر نفسه، ص 102.

9. المصدر نفسه، ص 62.

10. المصدر نفسه، ص 21.

11. المصدر نفسه، ص 54

12. ميخائيل نعيمه، سبعون، ص 438.

13. ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 27.

14. المصدر نفسه، ص 31.

15. المصدر نفسه، ص 46.

16. المصدر نفسه، ص 35 – 36 – 37.

17. المصدر نفسه، ص 86.

18. المصدر نفسه، ص 37 - 38 .

19. المصدر نفسه، ص 9.

20. المصدر نفسه، ص 73-74.

21. المصدر نفسه، ص 67.

22. المصدر نفسه، ص 108 – 109.

23. المصدر نفسه، ص 79.




أثر الهند في حياة جبران وأدبه

تأثير الهند في حياة جبران وأدبه لا يحتاج اثباته إلى كبير عناء، فيكاد يكون من المسلــّمات التي يقرّ بها الباحثون في ادب جبران، الا ان ذلك التأثير جاء متناثراً في مواقف جبران الحياتية وكتاباته ورسومه، ممــّا يفرض على الباحث جمع ما انتثر، وتقريب ما تباعد، والقيام بعملية تركيبية شاملة. تضاف إلى ذلك صعوبة ثانية مردّها الى ان تحليل آراء جبران يحتاج الى معرفة تامة بالتراث الهندي العريق وخصائصه، والاطلاع على المصادر الهندية المباشرة وغير المباشرة التي استمد جبران آراءه منها.

أبدأ بحياة جبران. معروف ان جبران كان من المؤمنين بعقيدة التقمص الهندية، وقوامها ان روح الانسان الواحدة الازلية التي لا بداية لها، والابدية التي لا نهاية لها، تتجسد مراراً، فيكون لها عدّة اعمار. اذاً، الروح واحدة والاعمار كثيرة، والدليل على ذلك نجده في قول جبران نفسه. كان ذات مرّة يحدث "ماري هاسكل"، فذكر انه يعي عدّة اعمار عاشها في الماضي، قال: "إن عنده شعوراً واعياً بكونه عاش حياة بشرية في الماضي"، وأضاف "انه في حيواته الماضية عاش مرتين في سوريا، ولكن لفترات قصيرة، ومرّة في ايطاليا الى سنّ الخامسة والعشرين، وفي اليونان حتى الثانية والعشرين، وفي مصر حتى الشيخوخة، وعدّة مرّات ست مرّات او سبعاً ربما، في بلاد الكلدان، وواحدة في كل من الهند وفارس. ويــُردف انه في هذه الحيوات كلها كان كائناً بشريــّاً، لكنه لا يعرف شيئاً عن حيواته السابقة"[1].

وليس يعنيني الامعان في حقيقة الاعمار التي قال جبران انه عاشها من قبل، بل تهمني دلالاتها. والدلالة الأولى هي ان جبران مؤمن بالتقمص، والثانية ارتباطه بعدة بلدان بل حضارات ومنها الهند وحضارتها، والثالثة قدرته على تذكر اعمار تــُجاوز عمره الراهن آنذاك، والرابعة الخبرة أو النواة التي تحملها الروح معها من عمر إلى عمر، والخامسة هي التطور والارتقاء.

وأبدأ بعقيدة التقمص، وهي لا تهدف في جوهرها إلى تكثير الاعمار من اجل تكثيرها. ان التقمص وسيلة وليس غاية، انه وسيلة الى المعرفة، معرفة ما يريده الله من الانسان. ان الله يريدنا ان نعرف ارادته، وهذه المعرفة غاية في الصعوبة، فلا تتحقق للانسان في عمر واحد، وبما ان الله عادل غير ظالم لعبيده، فإنه يتيح للناس عدة اعمار اي فسحة من الزمن طويلة ليعرفوه ويعرفوا ما يريده منهم. التقمص، إذاً، قائم على معرفة ارادة الله وعدله.

والدلالة الثانية هي ارتباط جبران بالهند وحضارتها، وأقف عند عدّة مظاهر حياتية من هذا الارتباط، فقد ذكر ميخائيل نعيمه أن جبران بسبب تأثره بنيتشه وشهرته في العالم العربي، "...صار يخجل من ان يكون مسقط رأسه بلدة صغيرة كبشري في بلد صغير كلبنان. ويحسب ان من كان مثله يجب ان تكون ولادته ملتحفة بلحاف من السر والسحر. وأي البلاد أكثر سحراً وسرّاً من بلاد الهند؟ لذلك عندما طلب اليه مرة نسيب عريضة بعض معلومات عن حياته لينشرها في مجلة "الفنون" قال له إنه ولد في بومباي الهند – إنما لا يهمه ان يشيع "السرّ" بين الناس. ولا بأس لو وضعه نسيب عريضة بين هلالين... وهكذا كان. فقد ظهرت تلك المعلومات في "الفنون" وهي تقول إن جبران "وُلد سنة 1883 في بشرّي من اعمال لبنان (ويقال بل في بومباي الهند)"...[2] .

و لا اعتقد ان جبران كان يخجل من ولادته في بشري ، فقد اوصى لها بعائدات مؤلفاته ورسومه، و ثق بأنه كان يعتز بوطنه العظيم لبنان، فهو القائل : "لو لم يكن لبنان وطني لاخترت لبنان وطناً لي"، جل ما في الامر ان جبران اراد التعبير عن انتمائه الحضاري الى الهند تاريخيــّـاً عن طريق التقمص وثقافيــّـاً لتأثره بالفكر الهندي، واجتماعيــّـاً لشيوع هذا الفكر في المجتمع الأميركي حيث كان يعيش.

مظهر آخر من مظاهر تأثر جبران بالهند اعتماره العــِـمامة الهندية، فقد نشر العزيز الراحل الصحافي رياض حنين وللمرّة الأولى رسماً لجبران معتــّـماً بالعــِـمامة الهندية[3].

ولم يكن جبران يعتقد ان علاقاته بالأشخاص، خصوصاً النساء منهم، هي وليدة عمره الراهن آنذاك، فانطلاقاً من ايمانه بالتقمص وبمبدإ الكارما القائل بأن اعمالنا الراهنة هي نتائج لاسباب سابقة، رأى جبران ان نسيج حياته السابقة والراهنة واللاحقة مرتبط بنسيج حياة ماري هاسكل، فقال لها: "... اني متأكد تمام التأكيد من اني عرفتك منذ آلاف السنين"، وقد توقف ميخائيل نعيمة طويلاً عند هذا الامر رابطاً اياه بالتقمص وعقيدة الكارما ومن ثم بالاسباب والنتائج، قال نعيمة بلسان جبران: "تأملي يا ماري كم خطوة خطوناها قبل ان نلتقي. وكل خطوة كانت نتيجة للتي قبلها وسبباً للتي بعدها..."[4]، وأردف "إي ماري، ماري! ان حيرتي فيكِ وبهجتي بك لا تعرفان نهاية. مــَنْ كنا وأين كنا في حياة قبل هذه الحياة؟..."[5].

وبعض تذكاراته يتعلــّـق بالاشخاص والامكنة والايمان معاً. ففي احدى الامسيات، عندما كانت امينة سرّه برباره يونغ تهيّء معه كتابه "رمل وزبد" قالت له: "اني اشعر كأنني جلست على هذا النحو بجانبك مراراً عديدة... مع اني ما فعلت ذلك قط"، فانتظر هنيهة كعادته قبل ان يجيب، ثم قال: "بلى... لقد فعلنا هذا منذ الف عام وسنفعله بعد الف سنة أخرى...". وفي اثناء تأليفه كتابه "يسوع ابن الانسان" كان تشخيصه لبعض الاحداث مثيراً حتى شعرت برباره يونغ بانها تجري امامها، فقالت "ما اقربها – تعني الاحداث – للواقع!! يلوح لي انني كنت هناك" فاذا بجوابه يدوي في اذنيّ "لقد كنتِ هناك... وانا كنتُ ايضاً"، وعلقت برباره يونغ على قول جبران: "لقد عرف جبران انه كان يحيا على الارض عندما كان يسوع في الارض المقدسة، واعتقد ان يسوع زار لبنان حقــّـاً فقال: "انا اعرف اني رأيته هناك"[6].

حتى الآن ركزت اساساً على موقف جبران من اعماره السابقة، ولكن اكمال رؤية جبران يقتضي الالماع الى اعماره الآتية، فقط خاطب في احدى رسائله مي زياده قائلاً: "... أما تعلمين يا مي اني ما فكرت بالانصراف الذي يسميه الناس موتاً، الا وجدت في التفكير لذة غريبة وشعرت بشوق هائل الى الرحيل. ولكني اعود فأذكر ان كلمة لا بد من قولها... لا لم اقل كلمتي بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان... اقول لك يا مي، ولا اقول لسواك، اني اذا انصرفت قبل تهجئة كلمتي ولفظها فاني سأعود لاقول الكلمة... اتستغربين هذا الكلام؟ ان اغرب الاشياء اقربها الى الحقائق الثابتة، وفي الارادة البشرية قوة اشتياق تحول السديم فينا الى شموس"[7].

واقف عند رسم الدين، وقد أثبته جبران في قصيدته "المواكب"، ويمثل الرسم "... شبه برج أعلاه مؤلف من رؤوس ثلاثة – رأس رَعْ الى اليسار وزرادشت الى اليمين وبوذه في الوسط. وعلى رأس بوذه، بين قلنسوة رَعْ وزرادشت، قد ارتكزت كرة ترمز الى الحقيقة اللامتناهية. وعند منتصف البرج، على صدر بوذه، الناصري المصلوب. وقد لمست كفاه كتف رَعْ من جهة وزرادشت من الاخرى..."[8]، ونستنتج من الرسم استمرارية الايمان لدى البشرية منذ القدم وعبر العصور، وان تعاليم بوذا ركن من اركان ايمان جبران.

ونتبيــّن من رسائله الى ماري هاسكل انــّه عرف طاغور، فقد ذكر توفيق صايغ انّ جبران "... التقى ...طاغور ذاته في اواخر 1916، وتحدث اليه واستمع اليه يتلو شعره. ووصفه بانه وسيم، ممتع، لكن صوته كان مخيباً، فهو نحيف واهٍ ترك اثراً سيئاً على قصائده والاستمتاع بها. وتناقش جبران وماري حوله عبر رسائلهما، واوضح لها وجهة نظره فيه في رسالة لها (1917)، فقال فيها ان عداء طاغور للقومية هو جزء من فلسفته، فلسفة التسامي الهندية؛ لكن ما يثير استغرابه فيه انــّه يتكلــّم ضد القومية في حين ان كتاباته ليس فيها وعي عالمي ولا تعبير عن وعي عالمي. ويقول انّ طاغور يتحسس جمال الحياة وبركتها، الا انــّه رغم هذا لا يرى الحياة كقوة دائمة النمو. فالله بالنسبة اليه كائن كامل، في حين انــّه هو، اي جبران، يرى انّ الكمال نقص ومحدودية: فهو لا يستطيع تصور حصول الكمال اكثر مما يستطيع تصور قيام حد ونهاية للمكان او الزمان. وفي ختام 1920 التقاه ثانية في حفل اقيم تكريماً للضيف الهندي، وقامت بينهما مشادة حول امريكا: فطاغور صور امريكا بلداً جشعاً متهالكاً على المادة، وانبرى له جبران يقول ان الروح قد تتجلى في الآلة، وان المادي والروحي ليسا بالمتضاربين، لكن الروح توجد في الحياة كلها وفي كافة الاشياء. ويقول جبران لماري ان تسعين بالمائة من الموجودين انحازوا لرأيه هو، وان خمسة وعشرين نادياً ومنظمة طلبت اليه بعد العشاء ان يتحدث اليها..."[9].

أنتقل الآن إلى مؤلفات جبران. آمن جبران منذ بداية حياته الادبية بوجود عالم روحي غير مرئي، وهذا العالم اشار اليه في كتاب "دمعة وابتسامة" الذي يضم مقالاته الاولى. منطلق جبران الاساسي اذاً هو ايمانه بعالم روحي يمكن ان نوجزه بكلمة "الله". وصفات هذا العالم كثيرة إلا انها موحدة، انه عالم الروح، ولكنه أيضاً عالم الحياة، والمحبة، والجمال، والعدل، والمعرفة، والحكمة، والمساواة، وهذا العالم اشار اليه جبران بقوله: "... وأم كل شيء في الكيان هي الروح الكلية الازلية الابدية المملوءة بالجمال والمحبة"[10].

والايمان بوجود روح كلية نجده في الفلسفة الهندية، وقد عمــّم جبران مفهوم هذه الروح فجعله شموليــّاً، قال: "كل شيء في الطبيعة يرمز الى الأم ويتكلم عن الامومة، فالشمس هي أم هذه الارض ترضعها حرارتها وتحتضنها بنورها... وهذه الارض هي ام للاشجار والازهار تلدها وترضعها... والاشجار والازهار امهات للاثمار... والبذور الحية..."، ونستنتج من قول جبران ان الطبيعة بما فيها من شمس وارض ونبات وحيوان وانسان مشمولة برعاية الروح الكلية بل هي فيض منها.

والروح الكلية التي آمن جبران بها حالــّة في الكون والانسان والارض، لذلك يمكن التأكيد ان جبران لم يقل بوجود الروح العامة خارج الكون والانسان والارض، بل آمن بأن الروح العامة موجودة في الكون والانسان والارض، ونتيجة لهذا المبدإ الحلولي لم يفرق جبران بين الروح والجسد، وهذا ما عبر عنه بلسان "آمنة العلوية" في كتابه "البدائع والطرائف" إذ قال: "ليس ما نراه على الارض وما لا نراه سوى حالات روحية، وانا قد دخلت المدينة المحجوبة بجسدي وهو روحي الظاهرة ودخلتها بروحي وهي جسدي الخفي... إنما الزهرة وعطرها شيء واحد"[11].

وقد عمم جبران هذا المبدأ على جميع الكائنات، فالارض ظاهرها مادي مرئي، اما باطنها فروحي مستتر، ان الحياة كلها، في رأي جبران هي "مظاهر الروح الكلية"، فالعالم الماورائي ليس منفصلاً عن العالم المادي، ان العالمين هما في حقيقة الامر عالم واحد، فالذرات الروحية تتخذ اشكالاً متعددة، وعليه نستنتج ان جبران ينتمي الى التيار الحلولي الهندي الذي يعتبر الروح كامنة في الانسان والمخلوقات والكون، بل ان روح الانسان بعض من روح الكون، انها ذات صغرى منبثقة من الذات الكبرى، وما سعي الانسان الى الارتقاء الروحي الا شوق الى التكامل والكمال، انه حنين الجزء الى الكل، وتدفق النهر - الفرع ليذوب في البحر - الاصل.

انتقل الى مبدإ آخر نجده في مذهب جبران وهو مبدأ وحدة الوجود. وهذا المبدأ نتيجة للايمان بالحلولية، فبما ان الكون والانسان صدرا عن عالم روحي واحد يمكن القول إن وحدة المصدر أدت الى وحدة الوجود، وجبران ركز كل التركيز على هذا المبدإ في القسم الخاص بـ "الغاب" من قصيدة "المواكب" فقد صوّر في القسم المذكور تآلف الكائنات تآلفاً دائماً ومستمرّاً، وهذا التآلف يصدر عن الجوهر الواحد الذي صدرت عنه الكائنات، والعنصر الواحد الذي تكونت منه، فالبحر، هذا البسيط الازرق مكون من ذرة واحدة في الاصل تكررت وتضافرت وتعالقت. ومبدأ وحدة الوجود مبدأ هندي قديم يدعو الى عدم فصل ذات الانسان عن الروح الكلية، وعدم فصل الانسان عن الانسان، وهذا عن الطبيعة، واي مظهر في الحياة عن اي مظهر آخر منها.

ونجد أثر الفكر الهندي في اقصوصة جبران "رماد الاجيال والنار الخالدة"، وهي قائمة اساساً على عقيدة التقمص، ويهمني منها ايمان جبران بوجود عالم روحي تنتقل اليه الارواح بعد الموت لتتقمص ، إن لم تكن قد بلغت بعد مرحلة الكمال، قالت بطلة الاقصوصة مخاطبة حبيبها: "أنا راحلة يا حبيبي الى مسارح الارواح وسوف اعود الى هذا العالم لأن عشتروت العظيمة ترجع الى هذه الحياة ارواح المحبين الذين ذهبوا الى الابدية قبل ان يتمتعوا بملذات الحب وغبطة الشبيبة"[12].

وتثير هذه الاقصوصة قضية الولادة المصحوبة بتجارب الاعمار السابقة، وخصوصاً قضية التذكر المهمة في الفلسفة الهندية، لان تذكر الاعمار السابقة غير متاح الا للارواح المتصفة بالنقاء والصفاء وعدم الاستغراق في شؤون المادة، وقد شدد جبران على ظاهرة التذكر هذه قائلاً بلسان بطل اقصوصته: "... ومن تموجات التفكر ودوائر التأمل تولدت في نفسه اشباح الذكرى فتذكر – تذكر تلك الاعمدة... تذكر المسارج والمباخر... تذكر الكهان... تذكر الصبايا... تذكر ورأى هذه الصور... ولكن الذكرى لا تعيد غير اشباح الاجسام التي نراها فيما عبر من اعمارنا..."[13].

وثمة اقصوصة ثانية يظهر فيها الاثر الهندي، وهي اقصوصة "الشاعر البعلبكي" وهي قائمة على مبدإ التقمص، وقد اوجزه جبران بقوله: "... جاء المدينة بالأمس حكيم من حكماء الهند... يدعو الناس الى الاعتقاد بتقمص الارواح من جسد الى جسد، وانتقال النفوس من جيل الى جيل حتى تبلغ الكمال..."[14]. وقد ركز جبران في هذه الاقصوصة على عامل الارتقاء والتكفير والتطهر، فقال: "من بلاد الهند تأتي الغرائب والعجائب... وطفق يتكلم... مظهراً كيف تنتقل الارواح من هيكل الى هيكل مرتقية بعوامل الوسط الذي تختاره، متدرجة بتأثيرات الامور التي تختبرها، متمايلة مع الامجاد التي ترفعها وتقويها، نامية مع الحب الذي يسعدها ويشقيها... باحثة عما تحتاج اليه من الكماليات مكفرة في حاضرها عن ذنوب اقترفتها في ماضيها مستغلة في بلد ما زرعته في بلد آخر"[15].

والمبدأ الاخير اي التكفير والتطهر قائم على قول الكرما الهندية بالثواب والعقاب، وقوامه كما تزرع تحصد، وكما تغني يغنى لك، ومصيرك بيدك ايها الانسان.

حتى نظرة جبران الى السيد المسيح لا تخلو من اثر هندي، قال في كتابه "يسوع ابن الانسان": "مراراً كثيرة جاء المسيح الى العالم... الم تسمعوا به على مفارق الطرق في الهند، وفي ارض المجوس، وعلى رمال مصر... وهنا في بلادكم الشمالية..."[16].

وتبقى لازمة كتاب "النبي" يرن صداها في خاتمة الكتاب: "لا يغربن عن بالكم اني سأعود اليكم. هنيهة بعد، ويعود حنيني فيجمع الطين والزبد لاجل جسد آخر. هنيهة بعد – لمحة استراحة على الريح – وتلدني امرأة أخرى"[17].

ولكن هل تستمر الولادات والميتات الى ما لا نهاية؟ لا، ان النهاية هي الانعتاق من حلقة التجسدات وعودة الروح الى باريها، ولكن جبران لا يعتقد ان ذوبان الذات الصغرى في الذات الكبرى يفقدها هويتها بل يؤمن بأنّ الذات الصغرى ستحافظ على كيانها السرمدي।


متري سليم بولس

ابو ظبي: المركز الاجتماعي الهندي KERALA، 27/2/2009.



1. توفيق صايغ، اضواء جديدة على جبران، الصفحتان 47-48.

2. ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، المجلد الثالث، الصفحتان 156-157. وقد بنى نعيمة حكمه على قول جبران التالي: "كنت أشفق على ضعفكم يا بني أمي. والشفقة تكثر الضعفاء وتنمي عدد المتوانين ولا تجدي الحياة شيئاً. واليوم صرت أرى ضعفكم فترتعش نفسي اشمئزازاً وتنقبض ازدراء".

"ماذا تطلبون مني يا بني أمي – بل ماذا تطلبون من الحياة والحياة لم تعد تحسبكم من أبنائها؟"

"أنا أكرهكم يا بني أمي لأنكم تكرهون المجد والعظمة.

"أنا أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم.

"أنا عدوكم لأنكم أعداء الآلهة ولكنكم لا تعلمون".

3. رياض حنين، الوجه الآخر لجبران، صورة الغلاف.

4. ميخائيل نعيمه، جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، المجلد الثالث، الصفحة 95.

5. المصدر نفسه، الصفحة 105.

6. برباره يونغ، هذا الرجل من لبنان، الصفحات 129، 130، 133.

7. جبران خليل جبران، رسائل جبران، تقديم جميل جبر، الصفحة 55.

8. ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، المجلد الثالث، الصفحة 179.

9. توفيق صايغ، اضواء جديدة على جبران، الاعمال الكاملة، الصفحة 218.

10. جبران خليل جبران، الاجنحة المتكسرة، المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران العربية، الصفحة 216.

11. جبران خليل جبران ، البدائع والطرائف، الصفحة 176.

12. جبران خليل جبران، عرائس المروج، الصفحة 31.

13. جبران خليل جبران، المصدر نفسه، الصفحة 37.

14. متري بولس، الغاز جبرانية، الصفحة 127.

15. جبران خليل جبران، العواصف، الصفحة 223.

16. متري بولس، الغاز جبرانية، الصفحة 140.

17. جبران خليل جبران، النبي، ترجمة ميخائيل نعيمة، الصفحة 106.