vendredi 18 mars 2011

تجربة ميخائيل نعيمه الشعرية في ديوان "همس الجفون"



ألقيت في بسكنتا
17-10-2009



ديوان "همس الجفون" حكاية قلب، وتأملات فكر، وتجربة إيمان، وموقف من المجتمع. وأبدأ بقصيدته الأولى تاريخيًّا، وهي قصيدة "النهر المتجمد"، وقد نظمها ميخائيل نعيمه بالروسية في عام 1910 يوم كان طالبًا في سِمنار پولتاڤا ثم ترجمها بنفسه إلى العربية في عام 1917 بعد تخرّجه من جامعة واشنطن في مدينة سياتـل.
وإذا أمعنّا في الأبيات التي يقابل فيها الشاعر بين قلبه والنهر استنتجنا أنه مرّ بمرحلتين: أولى كان فيها فرحَ القلب، طلقَ الآمال، وثانية صار فيها سئمًا لا يُشارك بائسًا في بؤسه ولا فرحًا في فرحه، قال مخاطبًا النهر:
"قد كان لي، يا نهر، قلب ضاحك مثـل المروجْ
حر كقلبك فيه أهواء وآمال تموجْ
قد كان يضحي غير ما يمسي ولا يشكو المللْ
واليوم قد جمدت كوجهك فيه أمواج الأملْ...
نبذته ضوضاء الحياة فمال عنها وانفردْ
وغدا جمادًا لا يحن ولا يميل إلى أحد"[1].
وألِفـْتُ إلى حالة القلب الأولى الضاحكة الحرّة، وإلى حالته الثانية وقد جمَد بل غدا جمادًا لا يحن ولا يميل...، ويلوح لي أن للقصيدة ظاهرًا هو بلد ونهر، وباطنـًا هو قلب سال عاطفة وتدفق ثم تجمد ولا رجاء له بانطلاق واندفاق، فهذه قصيدة "القلب المتجمد" قلب الشاعر ميخائيل نعيمه الشاب إذ كان في التاسعة والعشرين من العمر.
وأرى أن الترجمة العربية مهمة بالنسبة إلى الناظر في تجربة نعيمه العاطفية لأنه في نهاية الترجمة العربية يشير إلى قلبه عوضًا من مخاطبته روسيا كما فعل في القصيدة المنظومة بالروسية، وإشارته إلى قلبه تنم على حالة يأس، في حين تعبّر مخاطبته روسيا عن نزعة تفاؤل. روسيا مكبلة وسوف تفك قيودها، وقلب نعيمه مقيّد ولن يُفك له عِقال، قال مخاطبًا نهر "صولا" المتجمد وذاكرًا قلبَه:
"يا نهر ذا قلبي، أراه، كما أراك، مكبلا
والفرق أنك سوف تنشط من عِقالك، وهو... لا"[2].
إذًا، روسيا مكبلة، ونهر "صولا" متجمّد ولكنهما سيتحرران ويجريان، أما قلب الشاعر فمقيد راكد وسيظل كذلك.
وتلت تجربةَ القلب تجربةُ الفكر، فبعدما أسكت نعيمه خلجات قلبه أو كف قلبُه نفسه عن المشاعر، توثب الفكر هاديًا ومرشدًا، وعبّر نعيمه عن ذلك بقوله:
"فقلت لفكرتي اتقدي
وقلت لنفسي اتئدي
فنور الفكر يهدينا
إذا ما قلبُنا جمدا
ونورًا فيه لم نجدِ"[3].
ويظهر أن تعويل نعيمه على فكره هو موقف إرادي، اختاره عن قرار واقتناع، قال في الصدد هذا:
"جعلت الفكر حاميها
لأن الفكر بانيها
ولم أترك لقلب كان
ميتًا بين أضلاعي
ولا مقصورة فيها"[4].
واعمل نعيمه فكره في الدنيا سعيًا إلى جلاء أسرارها وكشف بواطنها وفهم ظواهرها فهمًا أعمق:
"ورحت أجوب ما استترا
من الدنيا وما ظهرا...
فأطرح كل ما حادا
عن المقياس أو زادا...

ورحت أقيس أيامي
وأعمالي وأحلامي
وما حولي ومن حولي
وما تحتي وما فوقي
بأفكاري وأوهامي...

كذا قسنا ليالينا
وحاضرنا وماضينا
أنا والفكر، يا قلبي
لقد شدنا علالينا"[5].
ونلحظ أن نعيمه يشدد على المقاييس بقوله: اقيس – المقياس – قسنا، ويشدد على دور الفكر بقوله: نور الفكر – بأفكاري – أنا والفكر، وكذلك يفعل في أبيات أخرى... إلاّ أننا نومئ إلى ربطه الأفكار بالأوهام حين قال: بأفكاري وأوهامي كما خاطب قلبه بحنو: أنا والفكر، يا قلبي، وفي هذين إيذان بشكه في قدرة الفكر على بلوغ اليقين وانعطاف على القلب بعد انعطاف عنه، وما عبّرعنه نعيمه خِفرًا في الأبيات السابقة، سفر عنه جهرًا في أبيات لاحقة، قال:
" ففي داخلي ضدان: قلب مسلِّم
وفكر عنيد بالتساؤل أضناني
توهم أن الكون سرٌّ وأنه
يُنال ببحث أو يُـباح ببرهانِ
فراح يجوب الأرض والجو والسما
يسائل عن قاص ويبحث عن دانِ
وكنت قصيدًا قبل ذلك كاملًا
فضعضع ما بي من معانٍ وأوزانِ"[6].
قلب جمد، وفكر همد، وهل يمكن إنسانًا شاعرًا شابًّا له رهافة ميخائيل وثقافة ميخائيل، وقد بلغ من العمر الثالثة والثلاثين، أن يجود بالأدب بل أن يُوجَد في الدنيا جافَّ القلب مكبوت الفكر، والمرء بأكبريه قلبه وفكره؟ فالقلب الذي حسبه نعيمه ميتـًا نبض، والفكر الذي ظنه تهاوى نهض، إلا أنهما اتخذا دورين اختلفا عما سبق. إن القلب موطن الأشواق بل هو نبضة الخالق في المخلوق، والفكر ليس قياسًا وبرهانـًا بل ليس عقلًا يجرد من المادة قوانين المحسوسات، إنه إشعاعُ وحي ينزل من المفكر الأعظم ليسعف الإنسان على تفسير معاني أشواق النفس ورموز الكائنات.
والقلب هذا ليس وليد عصره، فمشاعره ترقى إلى عصور سابقة تطول الأزل وتمتد إلى عصور لاحقة تبلغ الأبد:
"فهاتي يدًا، وهاك يدي
على رغد، على نكدِ
وقولي للأولى جهلوا
معًا كنا من الأزلِ
معًا نبقى إلى الأبدِ"[7].
والأزلي هو الله والأبدي هو الله، والإنسان صورة رسمها خيال الله قبل أن تتجسّد إنسانًا:
"أنا السر الذي استترا
بروحكِ منذ ما خطرا
ببال الكائن الأعلى
خيالُ العالَم الأدنى
فصور من ثرى بشرا"[8].
ولكون أشواق القلب من مصدر إلهي فإن لها الحكم، إنها التابع والفكر هو مفسّر معانيها:
"اقلبي احكم ولا ترهب
فما لي منك من مهرب
فأنت اليوم سلطاني
وأنت اليوم رباني
أدرني كيفما ترغب...
أفاق القلب، وا طربي
أفاق القلب، وا حربي
فنم يا فكر، أو فاخضع
لقلب كان من حجر
فصار اليوم من لهبِ"[9].
وبذلك بلغ نعيمه المرحلة الثالثة في تجربته الشعرية: قلب يشعر ذو أشواق لا تعرف حدًّا، وفكر في خدمة القلب يفسر معنى أشواقه ويبين أهداف اختلاجاتها، فإيمان بأن الإنسان ليس عرضًا في الكون طارئًا، بل هو كيان براه الله من روحه، وبما أن الخليقة هي صورة الخالق فإن روح الإنسان شأن روح الله باريها أزلية أبدية:
"ايه نفسي! أنتِ لحن فيّ قد رنّ صداه
وقعتكِ يدُ فنانِ خفي لا أراه
أنت ريح ونسيم، أنت موج، أنت بحر،
أنت برق، أنت رعد، أنت ليل، أنت فجر
أنت فيض من إله"[10].
ويثنّي:
"أخالقي رحماكا بما برت يداكا!
إن لم أكن صداكا فصوت من أنا؟...
فابدل لظى نيراني بجمرة الإيمانِ
واجعل من الحنانِ للقلب مرهما
إذ ذاك بالتهليلِ أسير في سبيلي
وخالقي دليلي، ووجهتي السما!"[11].
ويعلق نعيمه نفسه على هذه الأبيات قائلًا:
"... فحينـًا أسأل نفسي: "من أنت يا نفسي؟" فأراها في كل شيء وأرى كل شيء فيها. وأنتهي إلى أنها والله واحد، ولكنني لا أجرؤ أن أجاهر بذلك. فأكتفي بالقول إن نفسي "جزء من إله" أو "فيض من إله"[12].
ومن يعتقد أن نفْسه قبس من نور الله، وأنها والله واحد، يسعَ إلى إدراك ما بثـّه الله في نفسه ان هو عكف عليها يستنطقها ويسألها أو يسائلها، إذًا، ليس الإنسان معزولًا في الكون، واكبابه على نفسه هو كشف لدني، بل ان سرّ الخالق كامن في خليقته، وللإنسان أن ينظر في نفسه أولًا:
"الناس في أسرارها حائرون
والسر، لو يدرون، فيهم مقيم"[13].
"... لكنني مصغ لنفسي، ففي
نفسي أوتار وفيها نشيد..."[14].
"وسنبقى نفحص الآثار من هذا وذاكْ
ريثما ندرك أن الدرب فينا لا هناكْ"[15].
إذًا، ثمة اتجاه أول إلى داخل الإنسان ليكتشف في النفس ما انطوى عليه كيانه من نزوع إلهي، واتجاه ثان إلى الكائنات كلها ليرى الله فيها:
"كحل اللهم عيني
بشعاع من ضياكْ
كي تراكْ
في جميع الخلق...
وافتح اللهم اذني
كي تعي دومًا نداكْ
من علاكْ
في ثغاء الشاة، في زأر الأسود...
في خرير الماء، في قصف الرعود
في هدير البحر، في زحف الغمام...
في بكا الأطفال، في ضحك الكهول
في ابتهالات العراة الجائعين...
في صلاة الملك والعبد السجين"[16].
الله، إذًا، كامن في الإنسان الذي يحسب أنه جرم صغير وفيه انطوى العالم الأكبر، وحالٌّ في الكون الذي يخاله الإنسان مادة متعددة الأشكال والألوان:
"مظاهرها في الكون تبدو لناظر
كثيرة أشكال عديدة ألوانِ
واقنومها باق من البدء واحدًا
تجلت بشهب أم تجلت بديدانِ"[17].
فحيث الخليقة يكون الخالق، فالكون بما فيه ومن فيه تواجُدٌ وليس وجودًا فحسب، ومن أدرك هذه الحقيقة صار الله محورَ حياته بل هو حياته ومحجته، منك وا وإليك وا، أسعى إليك عبر الثنائيات من خير وشر إلى خير أحد إذ أن الله خير محض، وعبر المحبة والكراهية إلى المحبة الصرف إذ أن الله محبة خالصة، وعبر الصدق والكذب إلى الصدق الصراح والحق والحياة والموت:
"وليكن لي يا إلهي
من لساني شاهدان
صادقان
إن أفه بالحق فليشهد معي
أو أفه بالبطل فليشهد علي...
واجعل اللهم قلبي
واحة تسقي القريبْ
والغريبْ
ماؤها الايمان، أما غرسُها
فالرجا والحب والصبر الطويل
جوها الاخلاص، أما شمسها
فالوفا والصدق والحلم الجميل"[18].
ومن عرف محجته سار إليها آمنًا مطمئنًّا، مغلبًا في ثنائية الخير والشر المرحلية أحديةَ الخير السرمدي، ناظرًا من خلال التشاؤم والتفاؤل المثنويين إلى التفاؤل الأحدي، ومن خلال الموت إلى دوام الحياة، فالله حاديه، وصوت الله فيه يناديه:
"إذا سماؤك يومًا تحجبت بالغيوم
اغمض جفونك تبصر خلف الغيوم نجوم...
وعندما الموت يدنو واللحد يفغر فاه
اغمض جفونك تبصر في اللحد مهد الحياه"[19].
ومن يتخطَّ الثنائية صراعًا، ويرْنُ إلى الاحدية حلًا، فالأرض واحدة، والبشرية واحدة، والكون واحد، والله واحد وهو المحجة، يشعر بالطمأنينة وهي حالة روحية مستقرة فوق الصراع، ومن قصد مجد الله هانت لديه أمجاد الدنيا:
"سقف بيتي حديد ركني بيتي حجر...
باب قلبي حصين من صنوف الكدر...
وحليفي القضاء ورفيقي القدر..."[20].
وذلك لأن القضاء العادل لا يحكم إلا بما قضاه الإنسان لنفسه، والقدر لا يفرض إلا ما قدره الإنسان لنفسه، فكما يزرع الإنسان يحصد، وكما يُغني يغنى له:
"يا روح غني ولا تنوحي
فالعمر لحن إذ تسمعينه
تعين منه ما تنشدينه
والعيش حقل تستثمرينه
يعطيكِ مما تستودعينه"[21].
ونصل إلى المنحى الرابع من تجربة نعيمه، ويتعلق بموقفه من المجتمع، فالساعي إلى مجد الله يزهد في أمجاد الدنيا، فهي تبعده عن هدفه، وتستلب إرادته، وتقيده بتقاليد المجتمع، وتنأى به عن ربه، فعليه أن يتحرر منها:
"غدًا أرد هبات الناس للناسِ
وعن غناهم استغني بإفلاسي
وأسترد رهونا لي بذمتهم
فقد رهنت لهم فكري وإحساسي...
وألبس العري درعًا لا تحطمه
أيدي الملائك أو أيدي الشياطين
فلا تروعني نار الجحيم ولا
مجالس الحُور في الفردوس تغريني..."[22].
انصراف كلي إلى الله، ثواب يطمئن، وعقاب يعلِّم، وطاعة عالمة، وعود إلى الله وخلاص:
"قل اطعنا في كل ما قد فعلنا
صوت داع إلى الوجود دعانا
فجنينا من الحياة ولكن
قد أعدنا إلى الحياة جنانا...
ومضينا ولا ندامة فينا
وتركنا كؤوسنا لسوانا..."[23].من تجربة القلب، إلى تجربة الفكر، إلى تجربة الإيمان وما يصحبها من زهد وتطلعات، إلى موقف رافض للبنى الاجتماعية المخالفة لمشيئة الله ونظامه القائم على المحبة وان الانسان أعلى قيمة إلهية على الأرض وأرقى قبس روحاني من السماء، فلا يثمن بمال، ولا يذل ولا يستذل، مصدره الله ومآبه الله وهويته أن يعرف إرادة الله.




[1] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 12 – 13.
[2] ميخائيل نعيمه، همس الجفون ، ص 13.
[3] المصدر نفسه، ص 59.
[4] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 61.
[5] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 59 – 60.
[6] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 84 – 85.
[7] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 107.
[8] المصدر نفسه، ص 102.
[9] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 62.
[10] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 21.
[11] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 54
[12] ميخائيل نعيمه، سبعون، ص 438.
[13] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 27.
[14] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 31.
[15] المصدر نفسه، ص 46.
[16] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 35 – 36 – 37.
[17] المصدر نفسه، ص 86.
[18] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 37 - 38 .
[19] المصدر نفسه ، ص 9.
[20] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 73-74.
[21] المصدر نفسه، ص 67.
[22] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 108 – 109.
[23] ميخائيل نعيمه، همس الجفون، ص 79.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire