vendredi 18 mars 2011

الرؤية الساخرة في "قصة فنيانوس لشكري الخوري"


نادي الكتاب اللبناني
1 – 12 - 2009




رؤية شكري الخوري في "قصة فنيانوس" رؤية مرحة، ساخرة، خفيفة الظل، حاضرة النكتة، تواجه أدق القضايا وأصعبها، وفي كثير من الأحيان آلمَها، بروح الدعابة والرضى والاقتناع والقناعة، ولعل هذه الصفات من مرح وسخرية وخفة روح وقناعة هي التي أمّـنت لهذه القصة العبور من جيل إلى جيل منذ صدورها في العام 1902 في سان پاولو في البرازيل حتى يومنا هذا.

1 - وأول ما يلفتنا في "قصة فنيانوس" أسلوبها العامي البسيط، البعيد عن التكلّف، وهذا الأمر وعاه المؤلِّف شكري الخوري منذ بداية القصة، إذ تساءل "...عمّا إذا كان الأسلوب العامي يروق عند قرّاء..." الجريدة، ثم أجاب بأنه يروق لهم لأنه ما "... في متل البساطا بالدنيه... وريتو يقبر حالو كل متصنع ومتكلف"[1]، ثم عاد وألحّ على فائدة استعمال اللغة العامية، و"... استحسان كتابة الفصول باللغة العامية في الجرائد وغيرها، لأن الشعب لم يزل أكثره بسيط متل حكايتي، فهذا بدّو كمان شي بسيط حتى يقدر يفهم ويستفيد ويصير عنده رغبة للمطالعة..."[2].
والعامية ليست قاصرة على اللهجة اللبنانية بل هي تطول اللهجة المصرية بقالب من السخرية، فذا فنيانوس الذي مرّ مرور الكرام بالاسكندرية لقط اللهجة المصرية على الطائر، وراح يخاطب صاحبه "أبو الأجران" بالمصرية قائلًا: "... لبستلك الطربوش، يا بو الاجران... ما بقا أبدع من هيك ولا ألطف من كدا.
- مبين تعلمت حكي المصريّ
- أمّال ايه، يا خي، دنا من وقت اللي حطيت رجلي عالبرّ، ما كنت اسمع الا كلمة كدا وكدا هو. وكدا أمّال، وداهيا تشيلك كدا. والحاله كلها كدا بكدا..." [3].
* بعدهم بينادو... وبيغنو عالفاكهة؟
- معلوم... لكن في مسألة ما كنت أقدر حلّها وهي كل الخضار والفواكه بينادوا لها: يا "لوبيا". الخيار لوبيا، والبتنجان لوبيا، والفجل لوبيا، والفول الأخضر لوبيا، والقرع لوبيا، واللوبيا لوبيا. يفضح ديبهم! كلُّو لوبيا بلوبيا.
* اللوبيا يا فنيانوس، بيعنوا فيها الشي الطري، وبدل ما يقولوا طرية مسطلحين عاكلمة لوبيا.
- والغريب اللي متل درب حكايتي شو بيعرّفو؟ بيخمّن انهم ما بياكلوا إلاّ لوبيا"[4].

2 - وإذا كانت اللوبياء المصرية موضوع تنكيت فإن الحوار باللبنانية بغية الاطمئنان عن صحة المتحاورين مدار نقد مبطن وفكاهة، فاللبناني يسأل عن كل شيء ولا يترك لمن يخاطبه أو يسأله مجالًا لأي إجابة، وهذا ما يمثله الحوار التالي بين فنيانوس و"أبو الاجران":
* "فنيانوس ولاّ غلطان؟
- لا، موش غلطان. فنيانوس وشقفه. وإنت، موش أبو الاجران وِلاّ أنا عميان؟
* أبو الاجران ونكعه... اهلا بفنيانوس. كيف حالك، كيف خاطرك؟ كيف صحتك؟ انشاالله مريَّض! كيف حال من فارقت؟ (صبور تا آخذ نفس)... كيف كَيفك؟
- الحمدلله... وانت كيف حالك؟ كيف صحتك؟ مشتاقين يا بو الاجران، وين كل هالمدة؟ ما حدا سامعلك حس ولا حسيس"[5].
وهكذا يجري الحوار وكأنه حوار طرشان، فهناك من يسأل ولا يهتم بأن يسمع المسؤول أو بأن يجيب.

3 - ومنذ الوصول إلى مرفإ بيروت يبدأ التنكيت على طريقة المعاملة، فالتسعيرة حسب بلد المنشإ، فالآتي من مصر له سعر لنقله من الباخرة إلى الرصيف والآتي من أميركا له سعر أعلى، قال فنيانوس واصفًا ما حدث له هو وصديقه:
"... وما لِحْقِت السفينة ترخي الياطر إلا وجولك البحرية متل الغضب!... قاولنا بحري اسمو الحج شمطو بريال مجيدي ونزلنا. وعند وصولنا عالبر ناولتو المجيدي... ما لقيتلّك ياه إلاّ مفنجر عينيه فيّ... وقلّي: "إنتو جايين من أميركا، واللي بيجو من أميركا مفروض على كل رأس ليرا انكليز". قال "على كل راس"... ما كأَنا إلاّ غنم. قلتلو: "نحنا جايين من بر مصر يا حج شمطو، مش سامعني إذّاي (إزّاي) عمال اكلمك مصري كدا هو؟".
... قام المحروس اللي معي.. قلّو: "نو سنيور، نحنا موش جايين من أميركا". ولما سمع عمّك الحج شمطو كلمة نوسنيور قال: "آه ما دام المسألة فيها نوسنيور، دفعوا... كل واحد ليرتين"، وهكذا حدث[6].

4 - وتبقى طريقة استقبال الأقرباء وأهل الضيعة للمغترب العائد، وهي قائمة أساسًا على الأكل والتبويس ووفاء النذر، وكلها مواضيع تندُّر وتفكهة في "قصة فنيانوس"، فصاحب الدكان بومرعي "جاب لبن وجبن وتين وخبز مرقوق، اللي ما بتهضموا إلا مويّات لبنان، وبلَّشنا إيد طالعا وإيد نازله، ويا بلْع سلّم عالزّلع... وكمان ما عدت خلصت من عمتي... كل شويه وتدعقلي لقمة قد مخّك وتقلّي: - كول، يا روحي، كول. ريتن يمروا عاذُكرتك..." [7].
وما ينتظر فنيانوس في الضيعة أشد وأدهى، قال يصف ما حدث له: "...اجتمعت كل الضيعة للسلام على داعيك. شي كبير وشي صغير، وشي مقمط بالسرير، وشي بروس وشي من غير روس. وخلايق الله واستغفر الله. وبلش طعْق البَوس، اللي يشوكوني بشواربن، واللي يلوّتوني بزاق... اكتر من تلات اربع تيام بدون انقطاع، تاهلكت من التعب، وورموا شفافي، وصاروا متل شفاتير العبيد من كتر التبويس..."[8].
ويلي التهنئة بالعودة السالمة رد الزيارات للمهنئين وما يرافقها من مآدب ومآكل، قال فنيانوس واصفًا ما تعرض له من تكريم:
"وبعده... جا دوري برد السلامات... وصار عمك فنيانوس يتنقّل ويتفتّل من بيت لبيت؛ هون كاس عرق، وهون كباية نبيد، وهون عزيمة، وهون لقمة كبّة نيّة. وهونيك محشّاية، وهون معلاق، وهون قومه وهون قعده تا استويت"[9].

5 - ويلي ذلك وفاء النذر، فعمّة فنيانوس أم سكحا نادرة شمعة طوله لمارعبدا المشمّر إذا رجع فنيانوس بالسلامة، وهذا ما قد تمّ، وعليها وعليه وفاء النذر[10]، ومارعبدا بعيد، ونترك الحديث لفنيانوس وأبو الاجران في هذا الأمر، قال فنيانوس لأبو الاجران: "...حزور قديش يبعد عنا مارعبدا. ساعتين – شو بتقول؟! ساعتين؟ بزُق من تمك، يوم كامل. قال: وبدنا نروح حافيين كمان، هي المصيبة. وغلْبت وأنا قلّها: "يا عمتي، عما القراق انشاالله، سمعي قشعي! بلا هالمشوار، عندنا هون مار عبدا اللّي من غير تشمير؛ خلينا نقضيها بلاش هالعذاب". أبدًا، ما يقطع عقلها الا المشمّر..."[11].

6 - وبعد وفاء النذر بدأت المشاكل بين فنيانوس وعمته أم سكحا بالنسبة إلى العمار، فقد قرّر فنيانوس تعمير بيت يؤويه بعد زواجه، هو يريده لنفسه ولعمته وللعروس وحسب هندسة عصرية، وعمته تريده خلاف ذلك "حتى ضجروا الشغيلة وعافوا دينهم"، خصوصًا عندما زعقت على مدى صوتها: "-القن!! مبين موش عاملين قن!
قلتلاّ: يا عمتي لشو القن، هلق بعد بيعملو قنان؟
هالحكي كان عا ايام بواريد بوفتيل!
يا لطيف! وقامت فعطت فيي صوت طوّشني وقالت:
- البيت بيكون من غير قن ويوك وطاقا للبسيني؟
وصرت احكي معها برواق وقلها: يا روحي، ريتك تقبريني هالموضى بطلت...
قالت: أبدًا! القن واليوك قبل كل شيء، والا يا انا يا انت بهالضيعا..."[12].
وانتهى الجدال بين فنيانوس وعمته ام سكحا بمعركة كسرت فيها يدها من الكوع.

7 – أمر آخر يتناوله شكري الخوري بالتنكيت وهو الطب القروي، أو طب العجائز، فمن كرْع العرق وكثرة التخبيص بالمآكل برَك فنيانوس بالفرشة، وصار ممعودًا، وكانت عمّته أم سكحا الطبيب المداوي، ساعة تعمل له لزقة من حشيشة القزاز المقلوعة من حيط الكنيسة، وساعة تداويه بقطنة مبلولة بزيت قنديل الكنيسة، وساعة تلبسه طوق قزحيا، وساعة تبخره وساعة تحدله بمحدلة مار نهرا، وأخيرًا قررت أم زخيا أن معدة فنيانوس نازلة ويلزمها شيل، "وجابوا قدرة صغيرة وحطوا فيها ورق وعطوه نار وحطوها عا معدتي... حسيت روحي طلعت... والمقصوفة العمر، هي شيّالة المعدة، تقلها لعمتي: "شدي عا بطنو تاقلك. بدي طلعها إيد بإيد..."[13].
وبعد البحث والتدقيق "... قامت واحدة من المحروسين العجايز قالت: ... مسألتك عين، ما بيلزمها لا حكمة ولا شي. بدها نتفة رقوة تا نعرف مين اللي صابك بالعين"[14].

8 – ومن المضحكات في القصة طريقة فنيانوس في الغزل، فهو يريد أن يتزوج "قرقورة" من ضيعته، ولكنه رجل خجول، فهو عندما يتعلق الأمر بالحب والغزل والمرأة، يعجز عن الكلام، ويرجف مثل الورقة، ويدق قلبه، و"بطاتو بصيرو يلقّوا"[15]، ولذا يلجأ إلى طرق عجيبة غريبة للفت انتباه عروسة المستقبل، مرّة ينقفها بالملبس ولا يدعها تراه ومرّة يتنحنح ويلبط برجله وهي لا تلتفت إليه، فيوقع المحدلة عن السطح فتظن العروس ان إنسانًا وقع، ومرّة لطى لها قرب العين وهي تحمل جرّتها على رأسها وفاجأها بغتة بالسلام، فـ"قبطت ووقعت الجرّة"، وهكذا طارت "القرقورة" وتبخّر الزواج[16].

9 – ومن المضحك المبكي في القصة طريقة ندب الموتى ونعتهم بصفات لا تنطبق عليهم، وأقوال الندابات العجيبة الغريبة فيهم، فعمة فنيانوس القروية المحافظة في عقليتها وثيابها تصبح متأنقة بعد موتها تلبس على آخر طراز، ويعلق فنيانوس على ندب عمّته قائلًا: "واللي زادني بكي وعياط ندب النسوان، كان في هوني واحدة صوتها طيب وبلشت:
"وينك رايحا يا لابسه الموضا؟ ووينك رايحا واليوم ممروضا؟".
قال عمتي لابسه الموضا"[17].
ويتكرّر الأمر بعد موت أبو الاجران، فذا فنيانوس يطلب من أم موسى أن تندبه قائلًا:
"- دخلك يامّ موسي، عملي من قيمتو، وندبيلك شي ندبه تكون عا خاطرك. هيك، تبكي الصخور.
- واجب، ناولني نقطة موي تابلّ ريقي، قبل:
يا سيدي ويا بن السيد، مسافر والبلاد بعيد
بنطلون ما خدتوا وايش بتلبسوا عالعيد؟
ردّ عليي، يا فنيانوس ردّ!
يا سيدي ويابن السيد، مسافر والبلاد بعيد
محشي ما خدتوا معكم، وايش بتاكلوا عالعيد"[18].

10 – ومن الثوابت المضحكة في قصة فنيانوس النكات المستمدة من عالم الحيوان، فهي بعد الفكاهات المقتبسة من عالم المآكل من أكثر النكات شيوعًا في القصة، ومثالها الحديث التالي بين فنيانوس وأبو الأجران، قال فنيانوس:
".. لما وصلنا، يا سيدنا مِلاّ إنت، إلى سكندرية طلع عابالي النزول عالبر تا اتفرج عالبلد، قول نزلت أنا وواحد ابن عرب آدمي ولطيف متل حكايتك، ولكن حمار شوي.
* متل حكايتي آدمي ولطيف، ولكن حمار شوي!...يا مضروب الدم. حمار أنا. آه؟!..."[19].
كثيرة هي الأمور المضحكة المبكية في قصة فنيانوس، ومنها الانتقادات الموجهة إلى المجتمع بسبب البرطيل وظلم المحاكم والاعتقاد بالاحلام والأوهام، تُضاف إليها شخصيات طريفة كشخصية فنيانوس وأبو الأجران وأم سكحا ورفيق فنيانوس وأبو مرعي والكاهن وأم موسى، وكلها شخصيات مهضومة فكهة حاضرة النكتة والبديهة تستمد من شخصية مؤلفها شكري الخوري روحًا مرحة قريبة من القلب خفيفة الظل والدم.

أسئلة:
1 – الأسلوب واللغة العامية.
2 – الحوار بغية الاطمئنان عن الصحة والأهل والأشغال والأحوال.
3 – طريقة استقبال البحّارة للمغتربين واستغلالهم ماديًّا.
4 – طريقة استقبال أهالي القرية للمغترب من مآكل ومآدب حتى المرض.
5 – النذورات، وخصوصًا النذر لمارعبدا المشمّر.
6 – بناء البيت والقن واليوك وطاقة البسينة.
7 – الطب القروي.
8 – طريقة فنيانوس في الغزل تمهيدًا للزواج.
9 – طريقة ندب الموتى.
10 – النكات المستمدة من عالم الحيوان.
11 – شخصيات القصة المضحكة الضاحكة.




[1] شكري الخوري، قصة فنيانوس، منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك، 2009. الصفحتان 49-50.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 51.
[3] المصدر نفسه، ص 56.
[4] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحتان 58-59.
[5] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 54.
[6] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحتان 60-61.
[7] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 66.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 69.
[9] المصدر نفسه، الصفحة 70.
[10] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 64.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 80.
[12] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحتان 85-86.
[13] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 71.
[14] المصدر نفسه، الصفحة 72.
[15] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 75.
[16] المصدر نفسه، الصفحة 74.
[17] المصدر نفسه، الصفحة 95.
[18] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 105.
[19] شكري الخوري، قصة فنيانوس، الصفحة 55.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire