vendredi 18 mars 2011

الرؤية في رواية جبور دويهي


ألقيت في إهدن
28 حزيران 2009


شكرًا لبلدية اهدن رئيسًا وأعضاء وللحركة الثقافيّة فيها. شخصيًّا لا أعتقد بوجود مصادفات،
فالمرّة الأخيرة التي التقيت فيها الدكتور جبّور الدويهي كانت في العام 2000، كانت في 9/12/2000 في مدينة تولوز الفرنسيّة. وفي العام 2002 عند صدور روايته "عين وردة"[1] شعرت بالفخر حين وصلتني نسخة من الكتاب مع كلمة يقول فيها الدكتور الدويهي: "إلى متري الزميل في كار الأدب مع محبتي". وإنّني أبادله المحبّة بمحبة، وأكنّ إعجابًا كبيرًا بأدبه. قلت شخصيًّا لا أعتقد بوجود مصادفة، فهذه اللقاءات منذ العام 2000 حتى العام 2009 اعتبرها عطاءً ربّانيًّا، ولا أبالغ إذا قلت ذلك، فأنا أؤمن بأنّ صغار الأمور وكبارها محدّدة بإرادة تفوق الصغائر، بإرادة كبيرة تحرّكنا نحو الأفضل والأحسن. قلت إنّ لقاءنا عطاء، وأعني بذلك شخصيّة الأب مارون عطاالله الذي جمعنا اليوم.

أحدّد أولاً مفهوم الراوي. الراوي هو الذي يخبر القصّة، وهو غير المؤلّف كإنسان اجتماعيّ، ومن الضرورة عدم الخلط بين الكاتب والراوي، بل هناك من يميّز الإنسان من الكاتب والكاتب من الراوي. الإنسان ظاهرة اجتماعيّة إنسانيّة تاريخيّة. الكاتب حالة إبداعيّة تنظّم، ترتّب، تقدّم، تضيف، أو تطرح في أثناء عملية الإبداع والخلق. والراوي يظهر في نصّ لغويّ يتألّف من كلمات ،هو ما يرشح في النصّ الروائيّ من أمور يعيها الكاتب والإنسان أو لا يعيها. إذًا، ثمّة من يميّز بين الإنسان الاجتماعيّ وبين الكاتب وراء طاولته، والراوي أي ما يرشح من الكتابة في النصّ. والراوي قد يكون خارج الرواية، غائبًا عنها، يروي أحداثها من الخارج معتمدًا ضمير الغائب "هو"، إنه لا يظهر، يكون موضوعيًّا محايدًا، لكن قد تفلت منه مواقف تعبّر عن تدخّلاته في أثناء الرواية. وهذه حال جبّور دويهي في رواية "عين وردة"، فهو يتناول السرد من خارج الرواية إنه ليس من شخصيّات الرواية. الراوي إنسان خارجيّ يعاين من الخارج، يلاحظ من الخارج إلا أنّ له من حين إلى آخر بعض التدخّلات التي قد تعبّر عن وجهة نظره، عن رأيه في الناس، في الكون، في المجتمع والحياة. وراوي "عين وردة" راوٍ عليم narrateur omniscient، أي هو يعرف جميع الأمور، يعرف ما يجري في داخل الشخصيّات، في نفسيّة الشخصيّات، وما يجري في خارجها، ويعرف ما يحدث في الأمكنة المتعدّدة كما أنه يعرف الأزمنة المتعدّدة، ويعرف ما تجهله شخصيّات أخرى ورد ذكرها في الرواية، إنه الراوي العليم العارف بكلّ شيء. وأستميحكم عذرًا في أن أشير لمحًا إلى رأيي في راوي "عين وردة". لا أقول الكاتب ولا أقول الإنسان الدكتور الدويهي. الراوي في "عين وردة" هو راوٍ خارجيّ، أي ليس من شخصيّات الرواية، فهو يصف الشخصيّات ويسرد الأحداث من دون أن يشارك فيها، وهو راوٍ عليم يعرف الأمكنة والأزمنة والأحداث والشخصيّات ظاهرًا وباطنًا، يقظة وأحلامًا، وماضيًا وحاضرًا، وهو ينفر من الحرب وموبقاتها، والطائفيّة وعصبيّاتها، والطبقيّة ومظالمها، كما أنّه صاحب ثقافة واسعة، ورؤية مرحة ساخرة تبدو أكثر ما تبدو في الأمسية الشعريّة التي أحياها سليمان عطيّه في الهواء الطلق وسط دويّ القذائف وفرقعة الرصاص بإلقائه قصيدة "مخبوطة" ليست له، ووصفه سرعة الجماع بين عباس وبهية أمام ولديهما في القبو، ومضاجعة رضا للفتاة العربيّة. كلّها رؤى ساخرة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب في الأحداث وإن لم يكن طرفًا فيها، وإن لم يكن شخصيّة من شخصيّات الرواية.
انتقل إلى بناء رواية " عين وردة". من المسلّم به أن الروائيّين المعاصرين أو المحدثين كما يطيب لي أن أقول لا يتقيّدون بمراحل الحبكة الاتّباعيّة الثلاث. فنادرة هي الروايات التي تبدأ بمقدّمة تتبعها أزمة ويليها حل كما نظر لذلك الفيلسوف أرسطو. إن البنية القائمة على المنطق، على السبب والنتيجة، على سلسلة الحوافز والأفعال والأهداف حلّ مكانها تماسك الرؤية والأثر الذي يريد الكاتب أن يخلّفه في وجدان القارئ. وضمن تماسك الرؤية والأثر نجد في الروايات والأقاصيص الحديثة بدايات غير متوقّعة، وانتقالات مفاجئة، ونهايات منفتحة، ومثالها رواية "عين وردة" التي لا تقوم على المراحل الثلاث: المقدّمة، العقدة والحلّ. كما أنها لا تقوم على الترسيمة الخماسيّة: الحالة البدئيّة، العنصر المحرّك، ردود الفعل، الحلّ والحالة النهائيّة. الدكتور الدويهي لا يتّبع هذه الطريقة الكلاسيكيّة.
واسمحوا لي أن أقف عند نهاية الرواية، إنّ بعض الروايات لا تنتهي بحلٍّ واضح يصل بالقارئ إلى اليقين، فروايــة "عين وردة" ليست من الروايات التي يقرّ القارئ فيها على قرار. إنّها تنتمي إلى الروايات المنفتحة التي لا تنتهي بخاتمة واضحة لا تحتاج إلى أكثر من تأويل، فمصير بطلها "رضا" يظلّ مجهولاً، والاحتمالات بشأنه متعدّدة، فمنهم من يقول إنه يختبئ في منطقة "عين وردة" ويظهر في غرفته من حين إلى آخر، وبعضهم يذهب إلى أنه لاذ ببيروت هو وعشيقته العربيّة وقد بدّلا شكليهما ودأبا على الانتقال من مكان إلى آخر، فالمؤلّف يترك للقارئ إمكانيّة ترجيح حلٍّ من اثنين، والأرجح أنّ رضا وعشيقته يختبئان في بيروت.
النقطة الثالثة تتعلّق بالإيديولوجيّة الروائيّة. لا أريد تحويل الرواية إلى وثيقة أيديولوجية أو إعلان إيمان، فالرواية قبل كلّ شيء عمل فنّيّ، والأيديولوجية فيها تظلّ مرتبطة بالفنّ، ومن خلال الفنّ يجب اكتناهُها.
أسلّم بأن الأيديولوجية عنصر من عناصر الرواية، ولكنها عنصر غير منعزل عن سائر العناصر كالسرد والشخصيّات والزمان والمكان والبيئة وغيرها. وما على الباحث القيام به هو دراسة الأيديولوجية في الرواية من حيث كونها مجموعة من الأفكار والمعتقدات والتصرّفات تتعلّق بشخصيّة أو بشخصيّات روائيّة، أو طبقة أو حزب تتصارع داخل العمل الروائيّ، أو حتى بالراوي نفسه.
والأيديولوجية لا تقتصر على السياسة بل قد تشمل جميع القطاعات الفكريّة والروحيّة كالماديّة والمثاليّة، والدّينيّة كالطائفيّة والعلمنة، والأدب كالالتزام والفنّ للفنّ.
هذا ما قلته منذ تسعة أعوام في تولوز باللغة الفرنسيّة واليوم أكرّره باللغة العربيّة، وأحاول أن أنظر من خلال الأيديولوجية إلى وقفة الدكتور الدويهي من الحرب. فالحرب شائعة في روايته منذ بدايتها حتى نهايتها. بالإضافة إلى الرواي، إلى المكان، إلى بيت "الباز" في "عين وردة"، بالإضافة إلى الشخصيّات على تنوّعها من شخصيّات لبنانيّة وعربيّة جاءت من المحمّرة قرب حمص إلى سبنيه ثمّ إلى "عين وردة"، ثمّة عنصر أساس في الرواية هو الحرب اللبنانيّة. فالبيئة التي تقع فيها أحداث الرواية بيئة حربيّة تبدأ بذكر نصب شهداء الحرب التي جاوزت الخمسة عشر عامًا واقتلع مشعلوها حديد القطار لبيعه في الكونغو، وعكفوا على حمل المسدّسات واقتناء قطع الكلاشنيكوف، والامتناع عن إكمال الدراسة بسبب اندلاع الحرب، وانفجارات قذائف المدفعيّة في فضاء "عين وردة" آتية من الجنوب الشرقي - «بين حمانا وكفرسلوان» من مربض اشتراكيّ (ص 100)، وإيقاف الناس في شوارع بيروت على الحواجز وفرزهم مقدّمة لخطفهم أو حتّى لقتلهم... (ص 102)، ومعركة الأسواق التجارية، والمعارك على محور "غاليري سمعان" و"تلّ الزعتر" وفي فندق "الهوليداي إن"، وانقطاع الطرقات والتنصّت على المخابرات، وخطّ التماس «الذي كان يفصل بين المتقاتلين من المرفأ إلى مستديرة الصيّاد، على طول طريق الشام صعودًا ونزولًا» (210).
إنّ الإلحاح هذا على معطيات الحرب اللبنانيّة ووقائعها يدلّ أكثر ما يدلّ على أنّ جبّور الدويهي رجل يدعو إلى السلام، وكاتب وروائيّ رائد يؤمل في الإنسان خيرًا وفي لبنان عظمة.
[1] جبور الدويهي، عين وردة، دار النهار، بيروت، 2002.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire